الطباق و المقابلة في الآيات القرآنية

بين المقابلة والطباق في الآيات القرآنية

                                       دكتور أحمد عبد المجيد محمد خليفة

                                         الأستاذ المشارك بالكلية الجامعية بمكة المكرمة

            

                                       أولا ـ الطـبـاق

    هو إحدى فنون البديع المعنوية  التي كثر ورودها في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وكلام البلغاء .فهو من أعظم المحسنات  أثرا في تجميل  الأسلوب ؛ وإبراز المعاني ،  لأنه يتجاوز ظواهر الألفاظ إلى بواطنها  ، ولا يقف عند الألفاظ ، يل يتجاوزها إلى المعاني ، وهو بذلك وسيلة إيضاح جيدة  تعرض بها الأشياء  أو الصفات ، ثم يعرض ما يقابلها في المعاني. فلا شك أن الجمع بين الأشياء المتطابقة  يضفي على الكلام حسنا وجمالا ، ويزيده رونقا وبيانا فالضد يظهر حسنه الضد كما يقولون  .

    إذ أن المطابقة تنشط الفاعلية الإدراكية  ، وتأدي إلى تداعي المعاني المعاكسة ، وتوسع ملكة التخيل والوهم ، وتوقظ الإحساس ، وتأجج العطفة ، وتستفز الشعور من خلال تسليط الضوء على المفارقات .

    ويقال للمطابقة : التطبيق ، والطباق ، ومنهم من عد المقابلة فيها ، وهذا خلط واضح ، إذ لم يبق للفرق بينهما محل .

    المفهوم اللغوي للمطابقة : هو الجمع بين الشيئين ، يقولون : طابق فلان بين ثوبين ، ثم استعمل في غير ذلك فقيل طابق البعير في سيره ، إذا وضع رجله موضع يده ، وهو راجع إلى الجمع بين الشيئين ، قال الجعدي :

     وخيل تطابق بالذراعين طبــا          ق  الكلاب يطأن الهراسا (1)

     وقال الأصمعي  : " المطابقة أصلها وضع الرِّجل في موضع اليد في مشي ذوات الأربع .(2) .  ونقل عن الخليل بن أحمد ( رحمه الله ) : " يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذوٍ واحدٍ ، وألصقتهما  . (3)

     ويرى ابن حجة الحموي أنه " ليس بين التسمية اللغوية والتسمية الاصطلاحية مناسبة، لأن المطابقة في الاصطلاح  : الجمع بين  الضدين ،  في كلم ، أو بيت شعر ، كالإيراد والإصدار ، والليل والنهار ، والبياض والسواد (4)

    وقال ابن الأثير " " أجمع جماعة علماء من أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده : كالبياض والسواد ، والليل والنهار ، وخالفهم في ذلك أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب ، فقال : المطابقة : إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصفة ، مختلفتين في المعنى ". وهذا الذي ذكره قدامة  هو: التجنيس بعينه ، غير أن الأسماء لا مشاحة فيها  إلا إذا كانت مشتقة ، ولننظر نحن فيما حمله على ذلك . والذي حمل قدامة على ذلك ما اقتضاه اشتقاق لفظ الطباق " (5) .

     وقال الرماني : " المطابقة مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان "  واستحسن هذا التعريف ابن رشيق القيرواني فقال : " هذا أحسن قول سمعته في المطابقة من غيره ، وأجمعه لفائدة " (6) .

     وخلاصة القول في تعريف الطباق : هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام من خلال لفظتين متضادتين ، يتنافى وجودهما معًا في شيء واحد ، في وقت واحد . وقد يكونا بلفظين متحدين في الاسمية ، أو الفعلية ، أو الحرفية ، أو خلاف ذلك . على نحو ما سيأتي توضيحه ، وتطبيقه على القرآن الكريم .

    ولقد أشار الباحثون القدامى والمحدثون إلى أن هناك ألفاظا قرآنية لا تكاد  تفترق في القرآن الكريم هي من عادات القرآن واضطراداته ، مثل الجنة والنار ، والرغبة والرهبة ، والنعيم والعذاب ، والطيب والخبيث ، والنفع والضر ، والجائز والمقتصد ، وانه ما جاء بوعيد إلاَّ أعقبه بوعد ، وما جاء بنذارة إلا أعقبها إشارة . (7)

    وقد أشرنا إلى أن الطباق قد يكون بين اسمين أو فعلين أو حرفين ، ونذكر  من ذلك ما وقع في الأسلوب القرآني  ، ما كان بين اسمين ؛ قوله تعالى :

(( وما يستوي الأعمى والبصيرُ ، ولا الظلماتُ ولا النُّورُ ، ولا الظِّـِّلُّ ولا الحرورُ  وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ )) (8) .ُ

    _ فقد جمع بين " الأعمى ( ويقصد به الكافر، ويعني في إبعاده الجهل والضلالة وعدم الرؤية)  وبين البصير ( ويقصد به "المؤمن" ويعني بع العلم والهدى ووضوح الرؤية ) .  وجمع أيضا بين الظلمات : ويقصد بها الضلال . وبين النور : ويقصد بها الهداية  . وبين الظل والمراد به نعيم الجنة ، وبين الحرور ، والمراد به عذاب النار . وبين الأحياء والأموات ، وهما المؤمنين والكافرون .  وأن لكل ضد من هذه الأضداد  التي تتطابق مع بعضها البعض معاني عميقة ، ودقيقة ومتشعبة .

     و نذكر من الطباق بين فعلين ، قوله  تعالى : (( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات  وأحيا  )) (9) .فقد وقع الطباق بين " أضحك وأبكى " وبين أمات وأحيى " . وفي هذين الطباقين معنى دقيق ، وعميق ، يتمثل في  أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أضحك : أي أدخل السرور والبهجة والمرح والسعادة على النفس البشرية . وهو أيضا الذي أبكى : أي أدخل الحسرة والألم والتعاسة والشقاء على النفس الأخرى . بشكل كامل ومتطابق ، ولذلك لم يقل " أحزن وأرضى " بل جاء بدليل الفرح والسرور بكلمة أضحك ، وبدليل الحزن بكلمة "أبكى" .  ويبدو ذلك أيضا واضحا في المطابقة ين " أمات " , "أحيا " ، فالإماتة : لفظ يدل على زوال الحياة وانتهائها زوالا كاملا ، بينما الفعل " أحيا " يرمز للنقيض تماما إذ يبعث الحياة ، ويبثها في كل ما هو جماد ، فيجعله حياً ،يتحرك ، وينطق ، ويحس ، ويصبح صورة متناقضة تماما لصورة الموت والفناء والزوال .

     ومثال التضاد بين حرفين : قوله تعالى :  (( لها  ما كسبت وعليها ما اكتسبت )) (10) .فالجمع بين حرفي : "اللام " في كلمة " لها" ، و"على" في كلمة " عليها" مطابقة . فاللام في "لها " تفيد الملكية المشعرة بالانتفاع . و"على " في عليها ؛ تشعر بالثقل المفيد للتضرر والأذى.

     وقد يكون التضاد بين لفظين مختلفين : ومن أمثلة ذلك ؛ قوله تعالى : (( أو من كان ميتا فأحييناه )) (11) . فالتضاد هنا وقع بين لفظي " ميتا " : وهو اسم . وبين " أحيينا " : وهو فعل . والمراد بالميت في الآية الكريمة " الضال " . وبـ "أحييناه "  أي: هديناه.

 

 

" الفرق بين المطابقة والتكافؤ "

    

      يرى زكي الدين بن أبي الإصبع : أن المطابقة ضربان :

                     ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة ، وضرب يأتي  بألفاظ المجاز .

    واستحسن ابن حجة الحموي هذا التقسيم فقال :  " ولقد شفى ذكي بن أبي الإصبع القلوب ، في ما قرره "(12) .  فإنه قال : المطابقة ضربان :

1-      فالضرب الذي  يأتي بألفاظ الحقيقة ،هو ما يسمي بالمطابقة الحقيقية ، وأعظم الشواهد عليه ؛ قوله تعالى : ((وأنه هو أضحك  وأبكى ،وأنه هو أمات وأحيا )) (13)

-وقول النبي ( ص) للأنصار ( رضي الله عنهم ) : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) . فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة .

  - والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق ، قوله تعالى : (( وما يستوى الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات )) (14) . فانظر إلى عظيم هذه المطابقة ، وما فيها من الوجازة  (15) .

2-      والضرب الذي يأتي بألفاظ المجاز : يسميه قدامة بن جعفر بـ "التكافؤ " ( بشرط أن تكون الأضداد لموصوف واحد )  ومنه قول الشاعر :

                                                 حلو الشمائل  وهو مر باسل      يحمي الذمار صبيحة الإرهاق

فقوله : حلو ، ومر ، يجري مجرى الاستعارة ، إذ ليس في الإنسان ، ولا في شمائله ، ما يذاق بحاسة الذوق .

    - ومن أمثلة التكافؤ ، قول ابن رشيق ، وهو حسن :

                                              وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا        نجوم العوالي في سماء عجاج

     - وما أحلى قول القائل  في هذا الباب :

                                               إذا نحن سرنا بين شؤق ومغرب     تحرك يقظان التراب ونائمه

    فالمطابقة بين اليقظان  ، والنائم ، ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز . وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الإصبع (16) .

 

 

 

أنواع المطابقة

 

      قسم البلاغيون المطابقة إلى ثلاثة أنواع :

                                         1- مطابقة الإيجاب  .

                                         2- مطابقة السلب  .

                                         3-إيهام الطباق     .

أولاً- مطابقة الإيجاب :وهي التي لا يختلف الضدان فيها إيجابا وسلبا . ومن أمثلتها في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى : (( ولا تقولوا لمن يُقتلُ في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ  ولكن لا تشعرون )) (17) . فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون . وقد  خص الله الشهداء بالذكر هنا تشريفا لهم وتكريما أيضا .

-فالمطابقة وقعت في الآية الكريمة بين " أموات : و "أحياء " . وهي مطابقة إيجاب ، وبألفاظ الحقيقة .

    ومن ذلك ـأيضا - قوله تعالى: (( الذين ينفقون أموالهم  بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) 0(18)

     يبين الله سبحانه وتعالى أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته ، في جميع الأوقات بالليل والنهار  ، في السر والعلانية ، بأن أجرهم على الله ، وأنهم في الدرجات العالية في جنات الخلد ، ولا خوف عليهم فيها ، ولا يصيبهم فيها حزن أبدا .

-                                فالطباق هنا وقع بين " الليل والنهار " وبين " السر والعلانية " وبين "لهم " و " عليهم .

      *ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )) (19).  أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الله (الإسلام) فهو دين واضح ، فمن يكفر بالله أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ، ومن خلع الأنداد والأوثان ، وما يدعوا إليه الشيطان فإن الله ثبت أمره ، واستقام على الطريقة المثلى ، والصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم .

-           فالمطابقة فل الآية وقعت بين " الرشد :الذي هو الهداية ، وبين الغي : الذي هو الضلال. وكذلك أيضا بين " يكفر ، ويؤمن " .

*ومنه – أيضا- قوله تعالى:

                               (( باطنـه فيـه الرحمة ، وظاهـره من قبلِهِ العذابُ )) (20) .

ومن ذلك –أيضا- قوله تعالى :

                                  (( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات )) (21) .

ونذكر من ذلك في الأسلوب النبوي ، قول رسول الله (ًص) : (( أفضل الأعمال أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتصفح عمن ظلمك )). والمتأمل لهذه المطابقة بين الوصل والقطيعة ، وبين العطاء والحرمان ، يدرك جمال الطباق ، لما يحتويه الفعل " قطعك " من قطع مادى ومعنوي واجتماعي ونفسي . ومثل ذلك قوله (ص) : " وتعطي من حرمك " وهكذا فإن الطباق يجمع بين الضدين أو الشيء وضده بكل ما فيهما من معان ، وصور وأحاسيس. (22)

  • ·       وقوله (ص) : (( اليد العليا خير من اليد السفلى )) . فقد أراد الحبيب محمد (ص) باليد العليا ك يد المعطي ، وأراد باليد السفلى : يد المستعطي . وفي الحقيقة أنه  ليس ثمة يد عليا ويد سافلة ، وإنما المراد أن المعطي أعلى رتبة من الآخذ في مجال الرفد . فالطباق بين العليا والسقلى من ألى الطباق ، وقد احتوى أيضا على مجاز بديع .

 

ثانيا – طباق السلب : وهو ما اختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا. حيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد . نحو قوله تعالى : (( يخادعون الله والذين لآمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم  وما يشعرون )) (23) . يبين الله سبحانه وتعالى للمنافقين أنهم يخادعون أنفسهم بإظهارهم إيمانهم بالرغم من أنهم يسترون كفرهم ، وجحودهم ، بوله " يخادعون الله " ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " لأن المنافق يظن أنه يحسن لنفسه ، وهو بذلك يوقعها قي غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به ، فذلك خداع المنافق نفسه . فالطباق بين " يخدعون " و "ما يخدعون "وهي طباق سلب  بإيجاب الخداع ، ونفيه لأنهما ضدان .

   *ومن ذلك قوله تعالى : (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) (24)    .             

   *    وقوله :  (( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك علام الغيوب )) (25) .

    -وقد يكون أحد المصدرين في صيغة الأمر والآخر في صيغة النهي :كما في قوله تعالى : (( اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم  ، ولا تتبعوا  دونه أولياء )) . فطباق السلب وقع بين " اتبعوا " و"لا تتبعوا "  . وهذا النوع من الطباق  يقع كثيرا في القرآن الكريم .

 

ثالثا - إيهام التضاد : وهو " أن يجمع بين معنيين ليسا متقابلين ، ولكن عُبّرَ عنهما بلفظين متقابلين " . أو بعبارة أخرى : " هو أن يوهم لفظ الضد أنه ضد  مع أنه ليس بضد " . ومن أمثلة  ذلك  قول الشاعر دعبل الخزاعي :

                                            لا تعجبي يا سلمُ من رجل      ضحك المشيب برأسه فبكى

    فضحك المشيب من جهة المعنى ليس بضدٍ للبكاء ، لأنه كناية عن كثرة الشيب ، وظهوره في الرأس ، ولكنه من جهة اللفظ يوهم  التطابق أو أكثر .

ومنه أيضا قول الشاعر :

                                            يبدي وشاحا أبيضا من سيبه     والجو قد لبس الوشاح الأغبرا

  فإن الأغبرا ، ليس بضد " الأبيض " وإنما يوهم بلفظه أنه ضد .

 

ظهور التضاد وخفاؤه

 

    قد يكون التضاد بين المعاني ظاهرا جليا كما في الأمثلة السابقة ، ومنها أيضا قوله تعالى ((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء   وتذل من  تشاء )) (26)

وقد يكون خفيا : ومن أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى : (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار  رحماء بينهم )) (27) .

فالمطابقة هنا بين " أشداء " و" رحماء " . والرحمة ليست ضدا في المعنى ل"أشداء " . ولكن الرحمة تستلزم "اللين " الذي يتقابل ويتضاد مع " الشدة " ، لأن من رحم لان قلبه ورق . فالتضاد كما رأيت ليس واضحا ، بل فيه خفاء .

  • ·       ومنه أيضا قوله تعالى : (( مما خطيئاتهم أغرقوا  فأدخلوا نارا )) . فالمطابقة بين " الغرق " و" دخول النار " ، فإن من دخل النار احترق  ( والاحتراق ضد الغرق ) ، والإغراق ليس ضد النار في المعنى ، ولكن الإغراق يستلزم " الماء " و "الماء " ضد النار .
  • ·       ومن الأمثلة التي ترد فيه المفردات على غير ما هو معهود من التقابل ، فالمعلوم أن ضد العلم الجهل ، وضد العمى الإبصار  ، ولكن التعبير القرآني يجيء على هذه الشاكلة (( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ )) (28) . حيث يقابل بين "يعلم " ، وأعمى " أي : بين العلم والعمى ، وما هما بمتضادتين  لفظا ، ولكن الجهل الذي هو ضد العلم يشبَّه  صاحبه بالأعمى ، لأنه لا يقوى  على التمييز بين الخقائق ، ولا شك أن العمى هنا منظور إليه بمعناه غير الحسي إذ المراد به الجهل أو الضلال ، وهما ضدان لعلم والهدى.

                 

بلاغة الطباق

 

       رأى علماء البلاغة  أن بلاغة الطباق لا تكمن في الإتيان  بلفظين متقابلين في المعنى فحسب ، فإن هذا الصنيع لا طائل من ورائه ، وهو أسهل شيء ، بل قد يؤدي ذلك إلى التكلف والتصنع ، وفساد المعنى ، وإنما جمال الطباق وبلاغته يتجلى في بعده من التكلف ، وانسجامه في المعنى ، ولا يأتي مجرد  ، وإنما يجب أن يترشح بنوع من أنواع البديع الأخرى ، يشاركها في البهجة والرونق كقوله تعالى : (( تولج الليل في النهار  ، وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب )) (29) . ففي العطف بقوله تعالى : " وترزق من تشاء بغير حساب " دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، وهذه مبالغة في التكميل المشحونة بقدرة الله سبحانه وتعالى ، فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا ، فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية ، والعكس الذي لا يدرك ، لو جازته ، وبلاغته ومبالغة التكميل التى لا تليق بغير قدرة الله سبحانه وتعالى . (30).

     "وأن سر بلاغة كل من الطباق والمقابلة  إنما هي تداعي المعاني ، فالضد أو المقابل يجلب إلىالذهن ضده ، أو مقابله .. فإذا كتب الأديب أو نطق ، أحد المتساندين وقع مقابلة في ذهن متلقي قي   الأدب ، قبل أن يقرأه أو يسمعه ، وبهذا يتحول متلقي الأدب إلى مرسل له " (31).

   

 

     

     الهوامش والحواشي

(1)

(2) 

(3) .

           

ثانيا ـ المـقـابـلة

    تعد المقابلة من المحسنات البديعية المعنوية التي ترجع إلى تحسين المعنى . وقد جعلها بعض علماء البلاغة  مستقلة بذاتها ، بعدما كانت عند بعضهم مختلطة مع الطباق . وكان قدامة ابن جعفر أول  من تكلم عنها ، وعدها فن مستقل بذاته ، وذكرها في معرض حديثه عن بعض الخصائص الأسلوبية التي تعلي من قيمة العمل الأدبي ، وخاصة الشعر . وقد عرفها بقولة :" وصحة المقابلة أن يضع الشاعر معاني يريد التوفيق ، أو المخالفة بين بعضها وبعض ، فيأتي في الموافق بما يوافق ، وفي المخالف علي الصحة ، أو يشرط شروطا أو يعدد أحوالا في أحد المعنيين ، فيجب أن يأتي فيما  يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده ، وفيما يخالف بضد ذلك " (1)

    وعرفها أبو هلال العسكري ، بقوله: " هي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى ، واللفظ على وجه الموافقة ،أو المخالفة ، نحو قوله تعالى : ((فمكروا مكرا ومكرنا مكرا )) فالمكر من الله تعالى : العذاب . جعله  الله عز وجل مقابلة لمكرهم بأنبيائه ، وأهل طاعته ))(2) .

    كما عرفها ابن رشيق القيرواني ، فقال : المقابلة " أصلها ترتيب الكلام على ما يجب ، فيعطى أول الكلام ما يليق به أولا ، وآخره ما يليق به آخرًا   ، ويؤتى في الموافق بما يوافقه ، وفي المخالف بما يخالفه ، وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد ، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة " (3) .

     وعرفها السكاكي  ،  فقال  : المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر ، وتقابل بالأضداد ، ثم إذا شرط هنا شرطت هناك ضده "(4) .

     وعرفها الخطيب القزويني ،  فقال : " هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين ،أو أكثر ،ثم بما يقابل ذلك على الترتيب " (5).

      ويعرفها بدر الدين الزركشى يقول : " هو ذكر الشيء مع ما يوازنه في بعض صفاته ، ويخالفه في بعضها " (6) .

    وخلاصة القول من  التعريفات السابقة لها أن المقابلة : هي أن يأتي المتكلم  في كلامه  بمعنيين  متوافقين أو أكثر ليس بينهما تضاد ، ثم يأتي  بما يقابل ذلك على الترتيب . على شاكلة قوله تعالى : (( فليضحكوا قليلا  ، وليبكوا كثيرا جزاءا بما كانوا يكسبون )) (7) . فقد أتى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بمعنيين " يضحكوا " و""قليلا " وهما معنيان متوافقان أي ليس بينهما تضاد ، ثم أتى بعد ذلك بما يقابلهما على الترتيب بقوله " وليبكوا " و " كثيرا " .

  • ·                    من ذلك أيضا قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) (8) . فقد قابل  بأربعة معان، بأربعة أخرى ، الأربعة الأولى هي : " أعطى " " ,اتقى" , "صدق " و "اليسرى " .

    والأربعة الثانية هي: " بخل " و "استغنى " و" كذب " و "العسرى " .

 

الفرق بين المطابقة والمقابلة

 

          يكمن الفرق بين المطابقة والمقابلة في وجهين :

     الأول – أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا . والمقابلة  تكون لأكثر من ذلك ، كأن تكون مثلا بين أربعة أضداد : ضدين في صدر الكلام  ، وضدين في عجزه . وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد : خمسة في الصدر ، وخمسة في العجز .

     وقال علماء  البديع : كلما كثر عددها كانت أبلغ . فمن مقابلة خمسة ألفاظ بخمسة أخرى ، قول أمير المؤمنين علي ( كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان ( رضي الله عنهما ) : إن الحق ثقيل مري (يسهل بلعه ) ، والباطل خفيف وبيّ (من الوباء وهو: المرض ) ، وأنت رجل إذا صدقت سخطت ، وإن كذبت رضيت " (9) .

     الثاني – أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد ، أما المقابلة بالأضداد وغير الأضداد ، ولهذا جعل ابن الأثير ،الطباق أحد أنواع المقابلة ، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة ، وأعظم موقفا . ويضرب ابن حجة مثلا لذلك  فيقول : " ومن معجزات هذا الباب قوله تعالى :

(( ومن رحمته  جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ))(10). فانظر إلى مجيء الليل  والنهار في صدر الكلام ، وهما ضـدان ،  ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين ، وهما السكون والحركة ، على الترتيب ، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف ، فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا على المقابلة ، فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل ، لكون  الحركة تكون لمصلحة  ، ومفسدة ، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة ، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة ، وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل ، وسلامة الحس ، وإضافة الطرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ، ويتقي أسباب المهالك .  والآية الكريمة سيقت للاعتداد بالنعم ، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه ، ليتم حسن البيان ، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح، التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنا إلى ألفاظ كثيرة ، فحصل في هذا الكلام ، بهذا السبب ، عدة ضروب من المحاسن .  ألا ترى الله سبحانه وتعالى كيف جعل العلة في وجود الليل والنهار ،  حصول منافع الإنسان ، حيث قال :" لتسكنوا ،  ولتبتغوا " (بلام التعليل !)  فجمعت هذه الكلمات من أنواع البديع : المقابلة ، والتعليل ، والإشارة ، والإرداف ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، وحسن البيان ، وحسن النسق ، فلذلك جاء الكلام متلائما ، آخذا بعضه بأعناق بعض ، ثم أخبرنا بالخبر الصادق : إن جميع ما عدده من النعم  باللفظ الخاص ، وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الإرداف ، بعض رحمته ، حيث قال بحرف التبعيض : " ومن رحمته " . وهذا كله في بعض آية عدتها عشر كلمات ، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة (11) .

                                     

 

.أنواع المقابلة

 

       تأتي المقابلة على أربعة أنواع هي :

 1-مقابلة اثنين باثنين : ومن ذلك في الأسلوب القرآني قوله تعالى :

                                                          (( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا )) (12)

  • ·       وقوله تعالى :

                                                          (( تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء )) (13).

  • ·       وقوله تعالى  :

                                                       (( تخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي )) (14) .

     *وقوله أيضا :

                                                            (( وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا )) (15).

     *وقوله : (( ألم يروا  أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ، والنهار  مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )) .(16)

 

      فقد جاء في صدر هذه الآيات السابقة  بضدين ،  ثم قابل الضدين بضدين لهما في عجزها ، على الترتيب . فجاءت خذه المقابلات في غاية البلاغة والروعة . وقد ورد هذا النوع من المقابلة كثيرا في القرآن الكريم ونكتفي بهذا القدر منه  ، حتى لا يطول بنا حبل الكلام .

     *ومنه أيضا قول الحبيب محمد (ص) : (( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان الحزق ( الحمق والتسرع ) في شيء إلا شانه )) . فانظر كيف قابل الحبيب محمد (ص) الرفق بالحزق ، والزين بالشين ، بأحسن ترتيب ، وأتم مناسبة .

     *وقوله أيضا لأم المؤمنين : (( عليك بالرفق يا عائشة ،  فإنه ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه )) .

    *وقوله أيضا :

                                (( إن لله عبادا جعلهم  مفاتيح الخير ، مغاليق الشر )) .

    *وقوله أيضا للأنصار : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) أي يكثرون عند الملمات والحرب ، ويقلون عند المغانم ، ويعفون عنها .

 

2-مقابلة ثلاثة بثلاثة : ومن أمثلة ذلك في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى :

                                              (( ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث )) (17) .

-                                فالمقابلة بين " يحل ، و"يحرم " ، و " الطيبات والخبائث " .

    *ومنه أيضا قول الرسول (ص) ، من خطبـة له : (( ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة  قد ارتجلت مقبلة )(18) . إن أطراف المقابلة هي : الدنيا وارتحالها مدبرة ، يقابلها الآخرة ومجيئها مرتجلة مقبلة .

    *وقوله (ص) أيضا : (( المؤمن غرّ كريم ، والفاجر خبٌّ لئيم )) (19) .

    *وقال علي (كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان (رضي الله عنه ) : (( إن الحق ثقيل وبي ، والباطل خفيف مري (يسهل بلعه  )) .

   

*ومنه في القريض ، قول أبي دلامة ، وهو أشعر بيت في المقابلة :

                                        ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا     وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

-           فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح " ، , وبين " الدين والكفر " وبين " الدنيا والإفلاس ". قال ابن أبي الإصبع : إنه لم يقل قبله مثله . (20) .

 3-مقابلة أربعة  بأربعة :ومثاله  في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى  : (( فأما من أعطى واتقى  وصدق بالحسنى  فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ))(21) .

-           فالمقابلة بين قوله تعالى " استغنى " و قوله " اتقى " لأن المعنى زهد فيما عنده ، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وذلك يتضمن عدم التقوى. 

   *ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه )  في وصيته عند الموت : هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها )) . فقابل أول بآخر ، والدنيا بالآخرة ، وخارجا بداخل ، ومنها بفيها . فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام ))(22).

    *ومثله في القريض  ،  قول أبي تمام :

                                         يا أمة كان قبح الجود يسخطها    دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها

    *وقول ابن حجة الحموي :

                                       قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا    ولوا غضابا فوا حربي لغيظهم (23)

4- مقابلة خمسة بخمسة : قال علماء البلاغة كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، فمن مقابلة خمسة بخمسة ،وقد وقع ذلك في الشعر كثيرا ، ومن أمثلته قول أبي الطيب المتنبي :                .          أزورهم وسواد الليل يشفع لي     وأنثني وبياض الصبح يغري بي

قال صاحب الإيضاح : ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح ، والمقابلة الخامسة بين " بي " و "لي " ، فيها نظر لأن الباء ، واللام ،  صلتا الفعلين (24) .

     *ومنه أيضا قول صفي الدين الحلي :

                                          كان الرضا بدنوي من خواطرهم        فصار سخطي لبعدي عن جوارهمُ

-فالمقابلة بين الشطر الأول كله ، والشطر الثاني كله .

    وقد رأى علماء البلاغة أنه كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، شريطة أن لا تؤدي هذه الكثرة إلى التكلف والتصنع  . فوجدنا مقابلة ستة بستة ، كما في قول ،شرف الدين الأربلي :

                                           على رأس عبد تاج عز يزينه     وفي رجل حر قيد ذل يشينه

    - فالمقابلة هنا بين ألفاظ صدر البيت كله وبين عجزه كله .

وإن كنت أري أن المقابلة إذا ذادت على أربعة ، بأربعة ، قد تسلّم إلى التكلف والتصنع ، وقد نفسد المعنى ، وتؤدي إلى اضطراب الأسلوب وتعقيده . ولذا ندر أن نجد  أكثر من مقابلة أربعة بأربعة في الأسلوب القرآني المثل الأعلى في البلاغة والفصاحة، وكذا الأسلوب النبوي . وكما أن المقابلة  لا ضير في أن تكون بالأضداد ، أو بغيرها (شبيهها )، لأن المعنى يستدعي بعضه بعضا ، سواء بالمقابلة أو بالشبه ، وإن كان الضد أكثر ورودا على البال من الشبه ، وأوضح في الدلالة علة المعنى منه ، فإن الشبه يثير  الفكر ، وينشطه ، ويؤدي  إلى تداعي المعاني ، ويجعله يبحث عن أي الوجوه يكون ( الشبه ) المقابلة . فالمقابلة تجلو الأفكار ، وتوضح المعاني ، وتبرزها في صورة جلية ،  وتؤكدها وتقويها، وتؤدي  إلى تلاحم الأجزاء وأتلاف الألفاظ وزيادتها جمالا ، سواء كان ذلك من خلال عرض الأضداد أو الأشباه ، وهذا سر جمالها .   

الهوامش والحواشي

(1)                95 .

(2)              .

(3)                 .

(4)              .

 






نظرات:



متن امنیتی

گزارش تخلف
بعدی