اهتم
العرب بلغتهم كثيراً وتحدثوا عن لغة الكتاب والشعراء، فقال ابن
رشيق:(وللشعراء الفاظ معروفة وامثلة مألوفة لا ينبغي للشاعر ان يعدوها ولا
ان يستعمل غيرها، كما ان الكتاب اصطلحوا على الفاظ بأعيانها سمّوها
الكتابية لا يتجاوزونها الى سواها الا ان يريد شاعر ان يتظرف باستعمال لفظ
اعجمي فيستعمله في الندرة وعلى سبيل الخطرة) ونبهوا الى ما يكرر الاديب او
المتحدث من الفاظ، فقال الجاحظ: (ولكل قوم الفاظ حظيت عندهم وكذلك كل بليغ
في الارض وصاحب كلام منثور،
وكل شاعر في الارض وصاحب كلام موزون
فلابد من ان يكون قد لهج وألّف الفاظاً بعينها ليديرها في كلامه وان كان
واسع العلم، غزير المعاني، كثير اللفظ)، وعقدوا فصولاً للالفاظ وكان
مقدراً لتلك البحوث ان تبقى مزدهرة لولا ما أصاب اللغة العربية من جمود في
العهود المتأخرة فانحصر البحث اللغوي في المعاجم او في المقدمات التي كانت
تعرض للفصاحة في كتب البلاغة المتأخرة. واولى العلماء في مطلع القرن
العشرين النقد اللغوي اهمية كبيرة ولكن النقد حينما تأثر بالفكر الغربي
واخذت التيارت الاجنبية تصطرع اصبح ذلك النقد في الظل وصار النقاد لا
يعرضون لأحكامه الا في بعض الاحيان ولا يلتمسونه الا حينما يتحدثون عن
الفصاحة وشروط اللفظة المفردة، وهو ما وقف عليه البلاغيون جهودهم في
القديم، وليس ذلك بصحيح، لأن النقد اللغوي من اهم ما ينبغي الالتفات اليه،
واثار ذلك العزوف الباحثين وتحدثوا عنه وذكروا اهمال المعاصرين له، وكانت
الشاعرة نازك الملائكة من اكثرهم حماسة للعناية باللغة، وكتبت بحثاً عن
(الناقد العربي والمسؤولية اللغوية) قالت في مطلعه (تتجلى لمن يراقب النقد
العربي المعاصر ظاهرة خطيرة شائعة فيه، ملخصها ان النقاد يتغاضون تغاضياً
تاماً عن الاخطاء اللغوية والنحوية والاملائية، فلا يشيرون اليها ولا
يحتجون عليها وكأنهم بذلك يفترضون ان من حق اي انسان ان يمزق القواعد
الراسخة وان يصوغ الكلمات على غير القياس الوارد وان يبتدع انماطاً من
التعابير الركيكة التي تخدش السمع المرهف، وكأن من واجب الناقد ان يوافق
على ذلك كله موافقة تامة فلا يشير الى الاخطاء ولا يحاول حتى ان يعطي تلك
الاخطاء تخريجاً او مسامحة، ولقد اصبح هذا التغافل هو القانون النافذ في
كل نقد تنشره الصحف الادبية حتى لقد يتصدى الناقد الى نقد ديوان شعر مشحون
بالاغلاط المخجلة، فلا يزيد على ان يكيل كلمات الاعجاب للشاعر على تجديده
وابداعه مهملاً التعليق ولو بكلمة زجر عابرة على فوضى التعابير والاخطاء. أفلا
ينطوي هذا الموقف من النقاد على تشجيع واضح للجيل كله على الاستهانة
باللغة العربية والاستخفاف بقواعدها الرصينة؟ والى أي مدى ينبغي ان يعد
الناقد نفسه مسؤولاً عن لغة الشعر المعاصر) وترى ان ازدراء الناقد للجانب
اللغوي ليس الا صورة من ازدراء الشاعر نفسه للغته وقواعدها، فقد استقر في
اذهان الشباب ان الاهتمام باللغة والحرص على قواعدها يدلان على جمود فكري،
ولذلك اخذ بعضهم يزدري اللغة ويهمل المقاييس بقواعد اللغة لذاتها ولا تحب
ان تنصب مشانق ادبية لكل من يستعمل لفظته استعمالاً يهبها حياة جديدة او
يدعو الى الاستغناء عن بعض شكليات النحو البالية، بل تؤمن ايماناً عميقاً
بالتجديد المبدع وتعتقد ان هذا التجديد لا يتم الا على ايدي الشعراء
والكتاب والنقاد المثقفين الموهوبين. تقول: (ان الشاعر بإحساسه المرهف
وسمعه اللغوي الدقيق يمد للالفاظ معاني جديدة لم تكن لها، وقد يخرق قاعدة
مدفوعاً بحسه الفني فلا يسيء الى اللغة وانما يشدها الى الامام، الشاعر او
الاديب اذن هو الذين تتطور على يديه اللغة، اما النحوي واللغوي فلا شأن
لهما به، النحوي واللغوي عليهما واجب واحد هام، واجب الملاحظة واستخلاص
قواعد عامة من كلام المرهفين من الكتاب والشعراء، على ان الاديب الذي
سنتفق على تسميته مرهفاً.. لابد ان يملك ثقافة عميقة تمتد جذورها في صميم
الادب المحلي قديمه وحديثه من اطلاع واسع على ادب امة اجنبية واحدة على
الاقل، بحيث يتهيأ له حس لغوي قوي لا يستطيع معه ان هو خلق الا ان يكون ما
خلق جمالاً وسمواً، فاذا خرق قاعدة او اضاف لوناً الى لفظة او صنع تعبيراً
جديداً احسسنا انه ا حسن صنعاً وامكن لنا ان نعد ما أبدع وخرق قاعدة ذهبية. ان
الشاعرة نازك الملائكة ناقدة لغوية، وهي لا تريد ان تنحدر لغة الادب
المعاصر، ولذلك وجهة عنايتها الى هذا الجانب منذ عهد مبكر وفي مقدمة
ديوانها (شظايا ورماد) شيء من ذلك، ثم برزت عنايتها في كتاب (قضايا الشعر
المعاصر) وكتاب (الصومعة والشرفة الحمراء) ومن آرائها ان (اللغة ان لم
تركض مع الحياة ماتت) وان (اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الايحاء التي
تستطيع بها مواجهة اعاصير القلق والتحرق التي تملأ انفسنا اليوم. انها قد
كانت يوماً لغة موحية تتحرك وتضحك وتبكي وتعصف ثم ابتليت بأجيال من الذين
يجيدون التحنيط وصنع التماثيبل فصنعوا من الفاظها نسخاً جاهزة ووزعوها على
كتابهم وشعرائهم دون ان يدركوا ان ان شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا
يصنعه الف نحوي ولغوي مجتمعين). ودعت الى ان يدخل الاديب المرهف
(تغييراً جوهرياً على القاموس اللفظي المستعمل في ادب عصره فيترك استعمال
طائفة من الالفاظ التي كانت مستعملة في القرن المنصرم ويدخل مكانها
الفاظاً جديدة لم تكن مستعملة، وذلك لأن الالفاظ تخلق كما يخلق كل شيء يمر
عليه اصبع الاستعمال في هذه الحياة المتغيرة، وهي تكتسب بمرور السنين
جموداً يسبغه عليها التكرار فتفقد معانيها الفرعية شيئاً فشيئاً ويصبح لها
معنى واحد محدد يشكل عاطفة الاديب ويحول دون حرية التعبير، ثم ان الاذن
البشرية تمل الصور المألوفة والاصوات التي تتكرر وتستطيع ان تجردها من
كثير من معانيها وحياتها.
|