المدینة فی شعر عبدالدوهاب بیاتی

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمــــة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق ونور الأرض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
المكان هو مايحيط بالإنسان من رقعة جغرافية ,ويختلف مفهومه من عصر إلى عصر , ومن بيئة إلى أخرى , فقد يحدث عليه تطورات عديدة ولا سيما التطورات الحضارية التي تنشأ بفعل عامل الزمن .
هذا العامل الذي أدى إلى تغير المكان إذ كان البادية قديما ,وعند آخرين يدعى القرية أو البلدة ,لكن لم يدم هذا الحال فقد دخل مفهوم " المدينة " إلى حياة العرب متأثرين بالحضارة الغربية فما كان منهم إلا أن يستقبلوا هذا المفهوم بإيجابياته وسلبياته . ويظهر
هذا الاستقبال واضحا في الشعر العربي المعاصر إذ تأثر شعراؤنا بملامح المدينة , وهذا ماتناولته في بحثي الذي قسم إلى ثلاثة فصول وهي كالتالي :


_ الفصل الأول :
يحتوي تمهيد عن نشأة الشعر الحديث , ومن هم أهم رواده ,كما تناولت فيه محطات من حياة الشاعر العرا قي عبد الوهاب البياتي _الذي قمت بتحليل ورود المدينة في شعره _ وقد قسمت جوانب حياته إلى طفولته ,ودراسته ,ومخزونه الثقافي . . .
_الفصل الثاني:
فقد تناولت فيه ورود المدينة في الشعر العربي المعاصر وكيف كانت موضوعا متعدد الجوانب عند الشعراء المعاصريين ,وقد أخذت البياتي أنموذجا على شاعر ظهرت المدينة في شعره بشكل واضح .
_ الفصل الثالث :
يشتمل على تحليل قصائد مختارة للبياتي , و ورود المدينة فيها ,ومدلولاتها ,وأسبابها وكيف صورها .
وأخيرا الخاتمة إذ احتوت على ما توصلت إليه من بحثي .
أرجو من الله العلي القدير أن اكون قد وفقت في هذا البحث المتواضع .

والله ولي التوفيق




الفصل الأول

محطات من حياة البياتي

(1926 م _ 1999 م )

تمهـــيد

كان لما العرب من أختلاط بثقافة الغرب ,والتأثر بهم اثرا كبيرا وواضحا على شعرهم ,إذ أصبحوا يتحررون من الأسلوب التقليدي في كتابة الشعر وعدوة نوعا من الجمود لما يشتمل عليه من خصائص تقيده بعدد من التفعيلات لكل شطر والسير عليها حتى آخر بيت في القصيدة .كما أن الشكل التقليدي لم يعد قادرا على النهوض بمضمون جديد. (1)
ومن هذا الرفض للقديم والبحث عمّا يواكب الجديد والابتعاد عن التكرار ,كانت بداية حركة الشعر الحر وهو الشعر الذي يتحرر من القافية ويغير من البحور في القصيدة الواحدة, في سنة 1947 م.
وقد انطلقت هذه الحركة من بلاد الرافدين ,وتعد نازك الملائكة أول من ابتكره في قصيدتها (الكوليرا ) :

اصغ غلى وقع خطى الماشين

في صمت الفجر,اصغ,انظر ركب الباكين

عشرة أموات عشرونا

لا تحص ,اصغ للباكينا

اسمع صوت الطفل المسكين.



وفي أواخر سنة 1947م صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب " أزهار ذابلة " (2) .
وفي 1950م صدر ديوان " ملائكة وشيطان " لعبد الوهاب البياتي , فكان هؤلاء الشعراء بمثابة مفتاح للشعر الحديث وانطلاقتة إذ تتابع من بعدهم الشعراء , وساروا على نهجهم في كتابة الشعر مع وجود رفض لهذه الحركة لأسباب عديدة:
أولها : أنها تؤثر على اللغة العربية .
وثانيها: أن الشعر سيكون عرضة لدخول المتطفلين.
وثالثا : أنه يتعرض للابتذال في كتابة االشعر باستخدام الكلام اليومي (3) .
وبهذا احتل الشعر العراقي مكانة وأهمية استثنائية لما افتتحه من فجر جديد لم يكن بمحض الصدفة , ذلك أن العراق أرض الحضارة ليس فقط على صعيد الإبداعي الفني ولأدبي بل في كافة الأصعدة .
وفي هذا البحث سأتناول أحد شعراء العراق المحدثين وهو عبد الوهاب البياتي , الذي يعد ممن ساهموا في نشر هذا النوع من الشعر.

محطات من حياة البياتي ( 1926 م _ 1999 م )

أ _ طفولته :
ولد عبد الوهاب أحمد جمعة خليل البياتي في 19 كانون الأول سنة 1926 م(4) في حي من أحياء بغداد يسمى " باب الشيخ " نسبة إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني أحد كبار المتصوفة والمدفون هناك وكان هذا الحي مزدحما بالفقراء والمجذوبين والباعة والعمال والمهاجرين من الريف , كما يقول البياتي : " كانت هذه المعرفة هي مصدر ألمي الكبير الأول " (5)
فمنذ طفولته عاش في البؤس والموت إذ أنه ولد لعائلة فقيرة في حي فقير , لكنه ورغم هذا البؤس كان يمارس هواياته ويحاول أن يتغلب على معوقات حياته. و يختار عالم سعادته, إذ كان يشعر بحاجة إلى زاد روحي ومادي لكي يصلب عودة ويستطيع بدء رحلته الطويلة , والذي ساعده على ذالك عائلته التي كانت له فيها علاقات حميمة سواء من الجد الذي كان رجل دين وإماما , كان يتعلم منه ويقلده في معظم ما يقوم به من صلاة واعتناء بالبستان الصغير الملحق بالجامع , كما أنه عرف منه _ولأول مرة _ أشعار ابن عربي , وعمر الفارض , والحلاج , والشبلي , ورابعة العدوية وسواهم من كبار المتصوفة فقد كان هذا الطفل يحفظ مباشرة ما يلقيه جده. وكان جده يندهش وهما عائدان إلى البيت معا عندما يعيد عليه بعض ما حفظه (6).

وهذا التأثير لجده كان ينتهي داخل البيت , ويبدأ تأثير جدته لأمه التي كانت تحفظ مئات القصص والحكايات فكانت معلمته وملهمته الروحية لكن هذه العلاقة بدأت تتلاشى " عندما اصطدم رأسي بخيط العنكبوت الذي يسكنه الفقر البشري بدأت علاقتي بجدتي العمياء تكاد تنفصم , لأنها ... كانت كانت تصور لي جنة وهمية للفقراء . . . " (7) .
أما والده أحمد خليل جمعة كان تاجرا قلقا لا يستقر على حال منتقلا بين القرية والمدينة فقد كان شديد الإعجاب به ويعتبره النموذج لأحد أبطال شعره الذين سيولدون فيما بعد , ولم تكن علاقتهما علاقة ابن بأبيه فحسب , وإنما كانت علاقة المريد بأستاذه , كما أن والده ميزة عن بقية إخواته بالرغم من أنه لم يكن أكبرهم , إذ كان يصحبه معه إلى المقهى والسينما , كما أنه كان يترك له حريه شراء المجلات والكتب التي يريدها . لم يكن والده مثل جده بل عكسه تماما منصرفا لأمور الدنيا وما فيها لذلك وجد لشاعرنا منذ طولته نموذجان نادران جده ووالده (8) .
ب_ مخزونه الثقافي :
منحه الله الموهبة وهو بدوره قد عمل على إثرائها فالإبداع بحاجة إلى صقل , والبياتي قد تسلح بمخزون ثقافي كبير لأنه منذ سنين طويلة كان يقرأ كما يقول : "كنت أقرأ كل مايقع بين يدي من كتب ,


بدأت بالكتب الدينية أولا فرأيت أنها تتحدث عمّا أريده ,لكنها تؤجل الواقع إلى العالم الآخر, ولهذا أعرضت عنها ..." (9) .
في فترة الفتوة تفتحت أمامه أبواب الثقافات المتعددة ناهيك عن تأثره بحكايات جدته , وثقافة والده الواسعة , كما أن أغاني الفلاحين كانت زاده الشعري الأول, وكان طرفة بن العبد وأبو نواس , والمعري , والمتنبي , والشريف الرضي هم أكثر من أثر به من الشعراء العرب القدامى ,إذ أنه وجد فيهم نوعا من التمرد على القيم السائدة . ومن الشعراء الذين قرأ لهم باهتمام بالغ الشعراء الصوفيين أمثال جلال الدين الرومي , وفريد الدين العطار, والخيام ,ولم يقف عند هذا بل كان له ميلا واضحا نحو الأدب الشرقي المترجم من الشعر الهندي وبخاصة للشاعر( طاغور ) , ومن الشعر الفارسي , والصيني, والتركي.
ولانغيب أثر التراث العربي ودوره في صقل شاعرنا الذي انكب على قراءة العديد من كتبه , وكان يعتير أن كتاب " الأغاني " لأبي فرج الأصفهاني أكبر موسوعة ملحمية عالمية ؛ والسبب في ذلك أن مؤلف الكتاب يفتح الأبواب على فنون وأنواع أدبية لم يحاول أي أديب عربي أن يلتقطها , أما كتاب " ألف ليلة وليلة " فكان من أجل المتعة أو البحث عن شيء ضائع , فما كان يدفعه للعودة لقرأة هذه الكتب أكثر من مرة لكتشاف أشياء جديدة في كل مرة

أما الأدب العربي الحديث فكانت أولى الكتب التي أفاد منها وأشاعت الفرحة في نفسه كتاب " الأ يام " لطه حسين , وكتاب " أهل الكهف " لتوفيق الحكيم ,وكان حبه وانجذابه لكتابات الحكيم أكثر من غيره لأنها طبعة جديدة ومنقحة من عالم جده وحكايات جدته (10) .
كما أن شاعرنا وقف طويلا عند الأدب الواقعي فكانت رواية " الأم " (لغوركي) هي أول عمل اجتذبه , لأنه يعبر عن حياة الناس وتجاربهم , ثم وقف أمام الأدب الوجودي وخصوصا أمام (سارتروكامي) لما فيه من إصرار على الحرية (11) .
ومن مبدعي الغرب عرف الكثير وتأثر بهم أمثال ( أودن ,وأيلوار , ولوركا , وناظم حكمت , واكسندر بلوك ) .
كل هذا ولم يتوقف البياتي فكان مثلا للقاريء الجائع الذي ينهم ممّا طاب له من الكتب دون توقف على اختلافها من غربي وعربي لكنه يقول : " بالرغم من أنني قرأت الشعر الغربي وأكثر من كثير من الشعراء ولكنني وجدت أن الشعر العربي أقرب لي ولنا ؛لأنه يمثل هواجسنا و أحلامنا , والأ خطارالتي تهددنا" (12) .



ج_ دراسته :
عاش طفولته وصباه في باب الشيخ وتابع دراسته الثانوية في مدرسة الثانوية المركزية , أكبر مدارس بغداد تأسيسا حتى عام 1944م , ثم انتقل لإكمال دراسته في دار المعلمين التي كانت تعد أهم بؤرة ثقافية وثورية في العراق , إذ كانت تضم مختلف الأجناس والألوان , وقد لعبت الدار دورا مهما في حياته من ناحيتين : ناحية التعمق في قراءة التراث العربي القديم ودراسته ,كما تمكن من التغلب على إشكالية اللغة . والناحية الثانية :علاقته بأستاذته في تلك السنوات منهم : الدكتورعبد الفتاح السرنجاوي, والدكتور مصطفى جواد المؤرخ والأديب (13)
وقد حفظ في ذلك الوقت بعض نصوص وأشعار (رامبو,وفرلين ) باللغة الفرنسية إلى جانب الأدب الإنجليزي ,فدرس قصائد (ليبرون ,وكيتس )بالإضافة إلى مسرحيات(شكسبير) .
وفي خلال دراسته في الدار تعرف إلى الأدباء العراقيين والعرب منهم نازك الملائكة , والشاعر السوري سليمان العيسى, والدكتور عبد الواحد لؤلؤة , كما كان له صداقة وثيقة مع بدر شاكر السياب إذ كانا يتبدلا النقد في إنتاجهما بموضوعية ودون مجاملة .
وفي هذه الفترة من حياته أثناء دراسته قامت مجلة " الرسالة " المصرية بنشر أولى قصائده وهي قصيدة " أنشودة منتحر " , وقد أحدث هذا النشر في الوسط الأدبي والشعري في الدار وفي بغداد (14) .

أما في عام 1951 م قد كان عام الخير على شاعرنا , إذ تخرج من دار المعلمين حاملا شهادة جامعية باللغة العربية وأدابها وكما أصدر في العام نفسه ديوانه الأول "ملائكة وشياطين " هذا الديوان الذي لفت إليه أنظار النقاد (15) وفيه بدأت رحلته الشعرية.
د_وظائفه وغربته :
اختار البياتي منذ البداية أن يكون شاعرا وأن يعيش من أجل شعره دون أن يشغل نفسه بأي شيء آخرغير أنه عمل مدرسا في مدينة "الرمادي " بعد تخرجه , لكنه فصل منها بسبب آرائه السياسية ومعارضته للنظام العراقي أنذاك.
وفي سنة 1955م (16) . بدأت رحلة الغربة حيث انتقل إلى دمشق وانخرط منذ اليوم الأول في التجمعات الأدبية لكنه لم يبق فيها مدة طويلة فقد رأى أن بيروت أقرب إليه من دمشق فذهب إليها وعمل مدرسا في إحدى المدارس الثانوية مضطرا لأن موارده المادية كانت قليلة , ولأسباب سياسية غادر بيروت عائدا إلى دمشق , وفيها تعرف على كثر من الأدباء والشعراء (17) , وفيها كان على صلة بوطنه الذي لم يمنحه حرية التعبير لذلك بقي في غربة عنه .
أما في فترة حكم عبد الكريم قاسم للعراق ذهب شاعرنا إلى (موسكو) وعمل هناك مستشارا لكنه بقي محافظا على صلته ببغداد ولو بشكل بسيط إلا أنه وبعد سقوط نظام عبد الكريم وإعدامه لم يجد البياتي

إلا القاهرة وعبد الناصر كريمين معه , فقضى في القاهرة فترة من الزمن امتدت من (1964 م _1971 م ) ويعتبر هذه الفترة هي المرحلة الأهم في حياته إذ عاش فيها مرحلة النضج والسلام والاستقرار مما جعله يبدأ مشاريعه الأدبية والشعرية (18) .
لم يتوقف البياتي عند هذا الحد من النفي والغربة ’ فالنفي موجود بداخله على حد تعبيره: " فقد أحسست بالنفي قبل حصول النفي نفسه أي أنني أحسست بأني منفي منذ طفولتي .." (19) لذلك نجده قد عاش في معظم مدن العالم , وكان لكل مدينة أثرأ في تقدم شعره وعالميته , وخير مثال على ذلك مدينة مدريد الإسبانية , والتي مكث فيها عشر سنوا ت من (1979م _ 1989 م ) إذ كان يعمل مستشارا للثقافة في السفارة العراقية , وبهذه الفترة كان لقاءه بالمستشرقيين الإسبان الشغوفين شغفا لا مثيل له بدراسة الأدب العربي , فعند لقائهم البياتي فرحوا به واهتموا بشعره , وترجموا الكثير منه , وبما أن اللغة الإسبانية لغة عالمية ساهمت في نشر ترجمات أشعاره في منطقة واسعة من العالم (20) .
هذا هو شاعرنا الكبير عبد الوهاب البياتي الذي عاش للشعر وللشعر وحده , واختار أن يعيش مشردا مسافرا بين المدن إلى أن رحل عن عالمنا فجر الثلاثاء 3\آب \1999م(21) وبهذا نكون قد فقدنا شاعرا , عربيا , عالميا , معاصرا .
أهم مؤلفاته ودواوينه (22)
1. ديوان ملائكة وشياطين 1950 م
2. أباريق مهشمة 1955م
3. المجد للأطفال والزيتون 1956م
4. رسالة إلى ناظم حكمت 1965م
5. أشعار في النفى 1957 م
6. عشورن قصيدة من برلين 1959 م
7. كلمات لاتموت 1960 م
8. طريق الحرية ( بالروسية ) 1962م
9. سفر الفقر والثورة 1963 م
10. النار والكلمات 1964 م
11. الذي يأتي ولا يأتي 1966 م
12. الموت في الحياة 1968 م
13. تجربتي الشعرية 1968 م


14. عيون الكلاب الميتة 1969 م
15. بكائية إلى شمس حزيران والمرتزقة 1969 م
16. الكتابة على الطين 1970 م
17. يوميات سياسي محترف 1970م
18. وقد صدر له ديوان عبد الوهاب البياتي الذي ضم دواوينه المذكورة في ثلاث أجزاء 1972 م
19. قصائد حب على بوبات العالم السبع 1971 م
20. سيرة سارق النار 1974 م
21. كتاب البحر 1957 م
22. صوت السنوات الضوئية 1979 م
23. بستان عائشة 1989 م
24. كتاب المراثي 1995م
25. الحريق 1996 م


26. خمسون قصيدة الحب 1997 م
27. البحر بعيد أسمعه يتنهد 1998 م
28. ينابع الشمس_ السيرة الشعرية 1999 م
29. ومن أعماله الإبداعية الأخرى مسرحة محاكمة نيسابور
1973 م
30. ومن مؤلفاته : ديوان اليوار \أرجوان \مدن رجال ومتاهات \أما حوارته في الصحف والمجلات والندوات قد جمعت في كتاب يسمعى كنت أشكو إلى الحجر .







الهوامش :

1. قضية الشعر الجديد _ محمد النويهي _ دار الفكر _ط 2 _ 1971م _
ص_ 87 _89
2. قضايا الشعر المعاصر _نازك الملائكة _دار العلم للملايين _بيروت _ط5 _ 1983 م _ص 35 _36
3. قضية الشعر الجديد _ محمد النويهي _ ص 131 _134
4. عبد الوهاب البياتي بين الذكريات والوثائق _أبو القاسم محمد كرُّو _ دار المعارف _ تونس _ ط1 _2000م _ ص 72
5. ينابيع الشمس السيرة الشعرية _ عبد الوهاب البياتي _ دار الفرقد _ دمشق _ ط1 _1999م _ ص 14
6. الشاعر عبد الوهاب البياتي من مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني _ محمود جابر عباس _ دار الكرمل _ عمان _ ط1 _ 2001م _ ص 25 _ 26
7. ينابيع الشمس _ عبد الوهاب البياتي _ ص 24
8. المصدر السابق _ ص 18 _ 20


9. تجربتي الشعرية _ عبد الوهاب البياتي _ المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ بيروت _ ط3 _ 1993م _ ص 9
10. ينابيع الشمس _ عبد الوهاب البياتي _ ص 26 _32
11. تجربتي الشعرية _ عبد الوهاب البياتي _ ص 24
12. عبد الوهاب البياتي رحلة الشعر والحياة _ عبد اللطيف أرناؤوط _ مؤسسة المنارة _ بيروت _ دط _ 2004م _ ص 7 _ 28
13. عبد الوهاب البياتي بين الذكريات والوثائق _ أبو القاسم محمد كرُّو _ ص 83
14. ينابيع الشمس السيرة الشعرية _ عبد الوهاب البياتي 44_ ص 39_44
15. عبد الوهاب البياتي بين الذكريات والوثائق _ أبو القاسم محمد كرُّو _ ص 83
16. المصدر نفسه _ ص 64
17. ينابيع الشمس _ ص 55
18. عبد الوهاب البياتي بين الذكريات والوثائق _ ص 67 _ 71
19. ينابيع الشمس _ عبد الوهاب البياتي _ ص 57


20. عبد الوهاب البياتي بين الذكريات والوثائق _ ص 63_66
21. المصدر نفسه _ ص61
22. www.wikpedia.org\wiki\















الفصل الثاني

 

- المدينة في نظر الشعر العربي

المعاصر


- البياتي أنموذجا







المدينة في الشعر العربي

بالرغم من حياة العرب القدماء ، وما فيها من تنقل من مكان إلى آخر ، وعدم ارتباطهم بشكل دائم بمكان معين والثبات عليه ، إلا أن المكان شغل حيزاٌ في شعرهم ، فكان بمثابة الشاهد على حزن الحبيب وشوقه لمحبوبته ، وهذا امرؤ القيس في مطلع مقدمته يقول :

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدٌخول فحومل


وطرفة بن العبد يقول :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

ونلاحظ أن بداية كل قصيدة تراثية جاهلية أطلال ، فالأطلال عبارة عن مدينة مهجورة بالنسبة إليهم ، فمن المنطقي أن يتغنى الشعراء على مر العصور حسب نظر الشاعر في المدينة – المدينة هنا ليست بالضرورة مدينة حضارية فد تكون بادية أو قرية - .
لقد كان ظهور المدينة في الشعر الحديث مرتبطاٌ بالقرن العشرين ومنجزاته الحضارية من مباني ومنشآت كبيرة مشوبة بالأضواء والضوضاء . فعبر الشاعر عما يجول في نفسه من سخط أو قبول على هذه المنجزات ، وها هو إليوت في قصيدته " الأرض الخراب " و "رجال الجوف " يكشف وجه الإنحلال ومثل " مدينة " لندن التي عاش فيها مستودعاٌ تعلب فيه عظام الموتى ، ولم يكن شعراؤنا بمعزل فقد طُحن الشاعر العربي بالحضارة وخصوصاٌ أن معظم الشعراء ريفيو النشأة ، إذ كانوا يعيشون في صفاء ونقاء ، متكيفين مع قوانين الطبيعة ، متمسكين بالقيم الأصيلة ، فبدأت صدمتهم بإلغاء ما اعتادوا عليه ، وعندما استقروا في المدينة وواجهوا صعوباتها ، فكان ملاذهم هجاء المدينة والسخط عليها ، فتناولوا في شعرهم مفردات تحمل ملامح المدينة ، وأهمها الجدار الذي كان يفرض نفسه على عيون القادمين إليها من الريف .





فالجدار عند الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يشكل رمزاٌ من رموز المعاناة في المدينة ، وهو بتكرر في ديوانه " مدينة بلا قلب " وكأنه يضطهد الشاعر ويلاحقه أينما كان فيقول في قصيدة " كان لي قلب " :

وكان الحائط العملاق يسحقني

ويخنقني


وفي قصيدته " إلى اللقاء " (4) :

يا ويله من لم يصدق غير شمسها

غير البناء والسياج ، والبناء والسياج

غير المربعات ، والمثلثات ، والزجاج

يا أيها الأحياء تحت حائط أصم . . .


وتتعاون الأضواء مع الجدران ؛ فالجدار يحجب الرؤية ، والضوء يزعج العين ويصدمها من شدته ، فهو عند البياتي في قصيدة " مسافر بلا حقائب " (5) :

الضوء يصدمني

ضوضاء المدينة من بعيد


لكنه عند حجازي نراه كاشفاٌ وفاضحاٌ للأسرار ، ويأتي عنده للدلالة على الفرح كما في قصيدة " الطريق إلي السيدة " ( 6 ) :

والنور حولي فرح

قوس قزح

وأحرف مكتوبة من الضياء

حاتي الجلاء






ثم يأتي الضجيج ، والتزاحم ، والمواصلات وكثرتها ، وضيق الشوارع والكثافة السكانية ، وأناس مسرعين إلى أعمالهم ؛ للاستفادة من الزمن ، فزمن مدينة القرن العشرين إيقاعه سريع حتى دخل إلى جميع مناحي الحياة سكنها حتى في عاطفة الحب وقصته ، ويبين أثره الشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدته " الحب في هذا الزمان " (7) :

الحب يا رفيقي قد كان

في أول الزمان

يخضع للترتيب والحسبان

نظرة فابتسامة فسلام

فكلام فموعد فلقاء

اليوم يا عجائب الزمان

قد يلتقي في الحب عاشقان

من قبل أن يبتسما


كما صور أمل دنقل في قصيدته " ماريا " من ديوانه "مقتل قمر" الناس كالساعات :

الناس هنا . . . في المدن الكبرى . . . ساعات

لا تتخلف

لا تتوقف لا تتصرف

آلات آلات آلات


ومن هذا الإيقاع السريع للزمان تظهر مشكلة جهالة الأسماء ، فالناس في المدينة لا يعرفون بعضهم ، كما يقول حجازي في قصيدته " أنا والمدينة " ، ويعبر عن ضياعه . حين نادى الحارس قائلاٌ : " من أنت يا . . . من أنت ؟! " حيث لم يعقب حرف النداء منادى ( 8 )






كما يؤكد شعراؤنا على أن من يعيش في المدينة عليه أن يملك نقوداٌ ، كي لا يحتاج لأحد ، فهذا الحجازي الذي قدم من قريته بلا نقود طرد من غرفته لأنه لا يملك إيجارها ، هام على وجهه في شوارع المدينة محدثاٌ نفسه بالحرص على النقود :

لا لن أعود

لا لن أعود ثانياٌ بلا نقود

يا قاهرة


ولم يكن وحده فإننا نجد الشاعر عبد العزيز المقالح يؤكد هذه الحقيقة كما يقول في قصيدته " الكتابة للموت " ( 9 ) .
ومن هنا يظهر الشارع ، ويحتل مساحة عريضة في الشعر المعاصر فهو ميدان الحركة ، فقد رفض الشاعر شوارع المدينة وما فيها ( 10 ) :

شوارع المدينة الكبيرة

قيعان نار

تجتر في الظهيرة

ما شربته في الصخر من اللهيب


ولم يتوقف سخطهم على الملامح فقط ، إنما على الفئات المكونة للمدينة التي أصابتهم بمعاناة ضميرية من المومسات ، والقوادين ، والمنحرفين ، والسكارى ومدمني المخدرات ، والضائعين ، ومن هذا كله يتولد الشعور بالإغتراب والعزلة بفقدان الحرارة في العلاقات الاجتماعية ( 11 ) .










هذه الظروف كانت واحدة تقريباٌ على الشعراء ، فصور معظمهم المدينة بالمرأة اللعوب ، فدمشق أدونيس امرأة ، إلا أنها تحمل كثيراٌ من صفات المجتمع العربي في قوله :

يا امرأة الرفض بلا يقين

يا امرأة القبول

يا امرأة الضوضاء والذهول

أيتها العارية الضائعة الفخذين يا دمشق (12)


وعند حميد سعيد في قصيدته " حول المدن المهزومة " (13) حيث يصور القدس سبية :

ملك يهودي يقضي ليلة معها

وقد لحقت

فأولادها دماٌ ومراٌ

ومات صبيها العربي مقتولاٌ

ويصور يافا :

امرأة من أهلي ، خصبها الأعداء وباعوها

قطعوا نهديها

سلخوا جلادي حيث رفضت قبول النهدين قلائد

للأخت المذبوحة هيروشيما ( 14 )

ولا نعجب من هذا التشبيه في زمن شاعت فيه الدعوة للانحلال الجنسي في المدن الكبرى ونراها مكررة عند محمد عفيفي موطس وأمل دنقل ، وعند شعراء الأرض المحتلة ومنهم محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما .






من الطبيعي أن تتشابه تجارب الشعراء الريفيين المهاجرين إلى المدن بطبيعة الصدمة فأغلبها تعبير عن اغتراب نفسي ، واجتماعي لكنها تتفاوت في العمق ، فنجدها عند السياب عميقة ، فهو لم يستطع أن ينسجم مع بغداد لأنها عجزت أن تمحو صورة قريته جيكور ، حتى عندما عاد السياب لقريته وكانت قد تغيرت لم يستطع أن يحب بغداد ( 15 ) ، لأنها لم تمنحه السخاء والنقاء كما يقول :

مديتنا تؤرق ليلها نار بلا لخب

سحائب مرعدات مبرقات دون أمطار

ومن الأسباب أيضاٌ : قسوة المدينة على من يسكنها ، كما أن القهر السياسي الذي نال السياب منه المطاردة والسجن زاد من نقمته وارتبطت عنده المدينة بالطغيان الاقتصادي ( 16 )

أما بلند الحيدري فعلاقته بالمدينة مبهمة إلا أنها واقعية ، وهو يمثل قمة النفور من كل ما يسمى مدينة ، حتى وصلت به الحال إلى أن ينفر من قريته ويرفض العودة إليها ، لأنها تحولت لمدينة :

لا لن أعود

لمن أعود وقريتي أمست مدينة ؟!


وعند البياتي خاضعة لتغير الظروف ( 17 ) , ونجدها عند أحمد عبد المعطي حجازي مرحلية فقد ظل – من حين لحين – يعاود الضيق من المدينة ، لكنه في بعض الأوقات يهادن ، وتصبح لديه هي وحدة الوجود السكاني على الرغم من أنه لم يستطع الانسجام الكلي مع المدينة فإنه على الأقل لم يعد يعاني اتجاهها " عقدة " عاطفية ( 18 ) .












مع مرور الزمن أدرك الشعراء أنهم صاروا جزءاٌ من حياة المدينة ، و أن إنكارهم لها لن يلغيها ، وأن عليهم إعادة النظر في انفعالاتهم ، ومن هنا بدأ الصراع بين النقمة على المدينة والتعاطف معها وأن أساس كره المدينة سكانها فهم من أفقدها جوهرها ، حيث فقدوا صدق القلب ، وأصبحوا أناساٌ آخرين ، باختصار إن الإنسان هو سوأة المدينة ( 19 ) . وهنا يقول إبراهيم أبو سنة:

حين فقدها صدق القلب

حين تعلمنا أن نتقن أدوار عدة

في فصل واحد

حين أقمنا من أنفسنا آلهة أخرى

وعبد آله شوهاء

وعبد آله شوهاء

حين أجبنا الغرق بالضحكات

حين جلسنا نصخب في أعراس الجن

حين أجاب الواحد منا :

مادمت بخير فاليغرق هذا العالم طوفان

كنا نحن الأعداء كنا نحن غزاة مدينتا (20)
















ويتضح لنا هذا التحول في معظم القصائد فيظهر أهم ملمح في القصائد في مرحلة التعاطف هو إلصاق ياء المخاطب مع لفظة المدينة لتصبح " مدينتي " وهذا على التقريب والتحبب , وهذا واضح في قصيدة " أغنية القاهرة "لصلاح عبد الصبور في ديوانه
" أحلام الفارس القديم " :

حيث رأيت من خلال ظلمة المطار

نورك يا مدينتي عرفت أنني غللت

إلى الشوارع المسفلتة

إلى الميادين التي تموت فيها

خضرة أيامي . . .


فكانت هذه بداية التقبل والتفهم , فقد أدرك الشاعر العربي المعاصر أن ما كان يطلق عليه زيف المدينة لا يمكن أن يحجب وجه الحقيقة الخيرة للإنسان (21), وهذا يؤكد أن المدينة بالنسبة له لم تكن قيمة ثابتة بقدر ما كانت وجودا يعكس أزمات مرحلية مر بها . (22)
ونرى أن الشاعر أحب المدينة لدرجة أنه كلما اغترب عنها بعض الوقت فإنه يشتاق لها , فنجده يفصح عن هذا الجانب الجديد : ( 23 )

لقاكِ يا مدينتي دموع

أهواكِ يا مدينتي الهوى الذي يشرق البكاء

إذ ارتوت برؤية المحبوب عيناه

أهواكِ يا مدينتي الهوى الذي يسامح

لأن صوته الحبيس لا يقول غير كلمتين

إن أراد أن يصارح

أهواكِ يا مدينتي









ورغم هذا الحب يكشف لنا الصبور كيف أن التحول لحب المدينة لا ينفي ما تلقاه منها من عذاب :

أهواكِ رغم أنني أُنكرت في رحابك

وأن طيري الأليف طار عني

وأنني أعود , لا مأوى , ولا ملتجأ

أعود كي أشرد في أبوابك

أعود كي أشرب من عذابكِ


لم يتوقف التعاطف مع المدينة عند شاعر دون آخر فقد ظهر هذا عند العديد من الشعراءأمثال: بلند الحيدري ,وأحمد حجازي الذي أكتشف أن مدينته أجمل الأوطان , وأمل دنقل في حديثه عن الإسكندرية في قصيدته " عشق يفوح بعطر أنثى " , وبدر توفيق الذي نظر إلى القاهرة بأنها كون عامر بالحب والعطاء , وغيرهم الكثير . (24)
هكذا كانت المدينة موضوعا متعدد الجوانب في الشعر العربي المعاصر , وهذه هي العلاقة بين الشاعر والمدينة متغيرة بتغير القيم في مجتمع المدينة الذي قد يخلق صراعا أعنف بينها وبينه .





المدينة عند البياتي

كانت للمدينة دورا كبيرا في حياة البياتي وشعره , إذ نجدها حاضرة في أغلبقصائده, إذ لا يكاد دوانا يخلو من اسم المدينة أو حتى الإشارة لها , ففي إحدى قصائده يصور لنا مدينة لم يوضح أهي شرقية أم غريبة , وهذه القصيدة بعنوان " المدينة " (25) :

وعندما تعرت المدينة رأيت في عيونها الحزينة

مباذل الساسة واللصوص والبياذق رأيت في عيونها المشانق

تنصب والسجون و المحارق

والحزن والضياع والدخان

رأيت في عيونها الإنسان

يلصق مثل طابع البريد


ومن قصائده نجد حبة لمعظم المدن التي سافر إليها , دون أن ينسى حبه الأول وصدمته
الأولى بغداد التي شكلت له المعرفة الأولى بما يسمى مدينة (26) " كانت الصدمة الأولى حينما اكتشف حقيقة المدينة كانت مدينة مزيفة , قامت بالصدفة وفرضت علينا , لم تكن تملك من حقيقة المدينة أكثر من تشبيهها ببهلوان أو مهرج يلصق في ملابسه كل لون أو أي قطعة يصادفها (27 ) . فها هو يتأثربما تأثر به معاصروه , مما في المدينة من ملامح , فيقف عندها , ويمثل الجدران في المدينة وأنها مواجهة فيقول :

وعلى الجدار

ضوء النهار يمتص أعوامي ويبصقها دما ضوء النهار (28)


ويصور المدينة بالمرأة اللعوب المبتذلة: (29)

كل الغزاة بصقوا في مرجها والمجدور

وضاجعوها وهي في المخاض



ويصور بابل بمومس عاقر (30) :

العاقر الهلوك

من ألف ألف وهي في سمالها تضاجع الملوك .


كما أنه اتخذ موقفا عدائيا من الحضارة التي تشكلها المدينة ومثل على هذا العداء في قصيدة المدينة من ديوان " عيون الكلاب الميتة "

وعندما رأيت المدينة

رأـيت في عيونها الحزينة . . .


وفي هذه القصيدة نلاحظ أنه لم يحدد عن أي مدينة يتحدث أهي الغربية أم الشرقية ؛ لأنه ذكر صفات حضارية موجودة في كل المدن ويمكن أن نعد هذه القصيدة دليلا أن البياتي لم يرتبط بمدينة دون أخرى , وأن المدن في شعره ممارسة حياتية , أو محطات لا تقف فيها قطارات الأفكار والأزمنة , وكما يوضح البياتي أنه لم يقتصر في شعره على المدن التي عاش فيها , وأنه في بعض الأحيان كان يكتب شعرا عن مدن لم يعش فيها بعد . ولكنه سكنها فيما بعد ومنها (31) : قرطبة إذ كان عنصرا ظهورها في نص البياتي هما الخليفة , والشاعر الإسباني ( لبوركا )32 فكان الأول يرمز للظلم , والثاني يرمز للتضحية .
وغرناطة كانت رمزا للسوداوية , لأنه كان يحس اتجاهها بالعداء فكتب قصيدة بعنوان " الموت في غرناطة " (33) .
ومنها قصائد كتبها في القاهرة , وهي لا تنتمي إلى زمن الذي عاش فيه هناك مثل قصيدة " مرثية أخناتون " (34 ) .
ومن هنا نلاحظ أن البياتي لم يكن يخضع للتأثر الأني بالمدينة التي يكتب عنها بل يحاول أن يعمق ويمد جذور قصيدته في تاريخها .








وفي قصائد أخرى كان يبحث عن المستقبل , ويحلم بمدينة فاضلة إذ كان يطلق عليها المدينة المسحورة أو الأسطورة لتغنيه عن الواقع المؤلم (35 ) :

مدينة مسحورة

قامت على نهر من الفضة والليمون

لا يولد الإنسان في أبوابها الألف ولا يموت

يحيطها سور من الذهب

تحرسها من الرياح غابة الزيتون

أما بغداد الطفولة فقد كتب فيها أشعار , إذ كانت في بدايته الشعرية هي المرأة الجميلة الفاتنة المحبوبة (36 ) :

بغداد يا أغرودة المنتهى ويا عروس الأعصر الخيالية

الليل في عينيك مستيقظ وأنت في مهد الهوى (37)


وهو في المنفى كان يصورها " الطفلة العذراء " ورغم أنها تجمع المتناقضات " الشمس , والأطفال , والكروم , والخوف , والهموم " فإنه يبقى مشدودا لها بحب تعدى الوصف بأي شكل كانت , فهو دائم الحلم بالعودة لها : " قد أحلم بالعودة إلى بغداد , بعد موتي و ولادتي المئة , أي أنني أحب أن أولد أكثر من تسعين مرة في المنفى , وفي آخر مرة قد أفكر بالعودة لأن بغداد التي احبها منحتني كل ما تمتلك من خوف وجرح وفقر وتمزق وشعور بالقلق , وهي أم قاسية , ولكننا نحبها على علاتها لأنها أمنا . . . " (38 )
أما من ناحية سياسية فقد كانت تمثل له مرآة للتغير السياسي في العراق لذلك لم تكن قيمة ثابتة لديه لأنها متغيرة وفق التيارات السياسية (39 ) .
هكذا كانت المدينة في شعر شاعر المدينة عبد الوهاب البياتي الذي كان موقفه مذ عرف المدينة معاديا لكنه مع الانخراط بمجتمعها , والتعرف في كل مدينة زارها على أصدقاء ودودين تغير موقفه إلى عاشق المدن .


الهوامش :

(1) المدينة في الشعر العربي المعاصر _مختار أبو غالي _ عالم المعرفة _ الكويت نيسان _ 1995 _ ص 7_8
(2) الموقف من المدينة في الشعر العربي المعاصر _ السعيد الورقي _ دار المعرفة
إسكندرية _ د ط _ 1991_ ص 9
(3) ديوان مدينة بلا قلب _ أحمد عبد المعطي حجازي _ قصيدة كان لي قلبا _ ص 11
(4) المصدر نفسه _ قصيدة إلى اللقاء _ ص 32
(5) ديوان عبد الوهاب البياتي جـ 1 _ عبد الوهاب البياتب _ قصيدة مسافر بلا حقائب _ ص 168
(6) ديوان مدينة بلا قلب _ قصيدة الطريق إلى السيدة _ ص 17
(7) ديوان صلاح عبد الصبور _ صلاح عبد الصبور _ قصيدة حب في هذا الزمن _ ص 219
(8) المدينة في الشعر العربي المعاصر _ مختار أبو غالي _ ص 22_ 25
(9) المصدر نفسه _ 29_ 30
(10) الموقف من المدينة في شعر العربي المعاصر _ السعيد الورقي _ ص 38_39
(11) اتجاهات الشعر العربي المعاصر _ إحسان عباس _ دار الشروق _ عمان ط 2 _ 1992 _ ص 98
(12) المصدر نفسه ص 91
(13) ديوان قراة ثامنة _ حميد سعيد _ دار الأدب _ بيروت _
(14) المصدر نفسه _ ص 27
(15) اتجاهات الشعر العربي المعاصر _ إحسان عباس _ ص 94
(16) الاغتراب في الشعر العراقي المعاصر (مرحلة الرواد) _ حمد راضي جعفر _ اتحاد الكتاب العرب _ د ط _ 1999_ ص 32_33
(17) اتجاهات الشعر العربي المعاصر _ إحسان عباس _ ص 94
(18) المصدر نفسه _ ص 94 _ 98 _ 99
(19) الشعر العربي المعاصر وقضاياه وظواهره الفنية والمعنوية _ عز الدين إسماعيل _ دار العودة _ بيروت _ ط 2 _ ص 342 و 264
(20) قصيدة " غزال مدينتنا " _ محمد إبراهيم أبو سنة _ مجلة حوار _ عدد إبريل _ 1966 م
(21) اتجاهات الشعر العربي المعاصر _ إحسان عباس _ ص 99
(22) الموقف من المدينة في الشعر العربي المعاصر _ السعيد الورقي _ ص 59
(23) الشعر العربي المعاصر _ عز الدين إسماعيل _ ص 345
(24) الموقف من المدينة في الشعر العربي المعاصر _ السعيد الورقي _ 58 _ 61


(25) ديوان البياتي جـ 2 _ عبد الوهاب البياتي _ قصيدة المدينة _ ص 333 _ 335
(26) القيثارة والذاكرة _ عبد الوهاب البياتي _ دار مواقف عربية _ لندن _ ط 1 _ 1994م _ ص 60
(27) تجربتي الشعرية _ عبد الوهاب البياتي _ ص 12
(28) ديوان عبد الوهاب البياتي جـ 1 قصيدة مسافر بلا حقائب ص 11
(29) اتجاهات الشعر العربي المعاصر ص 91
(30) المصدر نفسه _ ص 92
(31) عبد الوهاب البياتي ما يبقى بعد الطوفان _ عدنان الصائغ _ نادي الكتاب العربي _ لندن _ ط 1 _ 1996 _ ص 34 _ 76
(32) لوركا : شاعر إسباني قتل في قصر الملك الإسباني على يد الفاشست الذين مزقوا جثته لأنه ثار لحرية وكرامة الإنسان
(33) شعر عبد الوهاب البياتي والتراث _ سامح الرواشدة _ دار الثقافة _ عمان ط 1 _ 1996م _ ص 145 _ 146
(34) عبد الوهاب البياتي ما يبقى بعد الطوفان _ عدنان الصائغ _ ص 76
(35) القيثارة والذاكرة _ عبد الوهاب البياتي ص 74
(36) اتجاهات الشعر المعاصر _ إحسان عباس _ ص 100
(37) ديوان عبد الوهاب البياتي ج 1 _ موال قصيدة بغداد _ 378
(38) عبد الوهاب البياتي ما يبقى بعد الطوفان _ عدنان الصائغ _ ص 74
(39) اتجاهات الشعر العربي المعاصر _ إحسان عباس _ ص 100 _ 101

الفصل الثالث

المدينة في ديوان

أشعار في المنفى

أبرز خصائص البياتي

يعد البياتي من أبرز الشعراء المعاصريين شاعرية إّذ يجمع شعره بين الحقائق الاجتماعية , وحرارة الانفعال الشخصي (1) .
كما انه يعد صاحب لغة واضحة بعيدة عن الغموض , فشعره مؤهل للوصول إلى القاريء العربي ,إلا أن بعض أشعاره التي ترد فيها شخصية ذات فكر فلسفي فإنه يستخدم فيها لغة رمزية , وغامضة تأتي من الشخصية لكنه يستغلها استغلالا قريبا من ذهن المتلقي , وهو دائم الحرص على أن يكرر هذه الرموز حتى باتت مألوفة مفهومة كقوله في قصيدة " الحرف العائد " :

الموت حتف الأنف

لوركا قال لي

وقال لي القمر

ضيّعتني

ضيعك الوتر


أما الذهب الذي كان يسير وفقه في شعره فلم يحدده إذ استخدم اللغة الواقعية المستمدة من واقع الحياة وهذا يمثل مذهب الواقعيين , واعتمد الإيجاز والأسلوب المختصر شأنه بذلك شان الرمزيين , وفي بعض أشعاره يخرج عن المألوف فيكون على المذهب السريالي .
ومن ناحية الفنون البلاغية يلاحظ ان لدى الشاعر حبا للسجع والإيقاع الموسيقي حيث نلحظ تقارب وانسجام في أواخر الكلمات عنده .

من قصـائد البيــاتي


أطلق عليه لقب شاعر المدينة وهذا لقب مناسب لشاعر ذكر المدن في قصائد بشكل لافت , إلا أن ديوانه الأول " ملائكة وشياطين "كان يمثل بداية رومنسية إذ لم ترد المدينة إلا في قصيدة واحدة علما أن عدد قصائد الديوا سبع وأربعين قصيدة .
قصيدة " بغداد " كتبها الشاعر ليصف مدى حبه وشوقه لبغداد وماضيها , لذلك نرى أن الصبغة الرومنسية هي الطاغية فيها بشكل خاص والديوان بشكل عام إّ يقول :

" بغداد " يا أغرودة المنتهى

وياعروس الأعصر الخالية

الليل في عينيك مستيقظ وأنتِ

في مهد الهوى غافية


وعلى طول القصيدة نرى أن الشاعر يورد صور زاهية جميلة لبغداد فمرة يشبهها بعروس جميلة تداعبها الطبيعة :

فارتعشت أوراقها لهفة

إليكِ وانسابت مع الساقية

و " دجلة " العاشق ترنمه

تشدوا بها أنسامك


وفي مكان آخر يصورها بطفلة محبوبة للناس :

بغداد في حبك أهل الهوى

ماتوا ؟ وأنتِ الطفلة الباقية




ولم يستطع الشاعر أن يخفي لهفته لحضنها وذكرياته :

بغداد هذي دمعتي في الهوى

وما دموعي غير أشعاريه

ذوبت فيها ذكرياتي التي

كانت بليل الحب مصباحيه

وأمنيات غضة لم تزل

أنفاسها في عزلتي ذاكيه

بغداد إني الظاميء للهوى

فعطري بالحب أجوائيه

وبعد هذا الديوان شغلت المدينة حيزا كبيرا في شعره حتى ولو أنه في بعض قصائده لم يذكر اسما لمدينة بل كان يتحدث عمّا في المدن من ملامح تستحق أن ينقم الإنسان عليها .



تحليل قصائد من ديوان

"أشعار في المنفى "


صدر ديوان أشعار في المفى سنة 1975م وترتيبه بين دواوين البياتي الثالث . كتبه وهو في غربته بعيدا عن وطنه . إذ تنقل مابين دمشق , وبيروت , والقاهرة , ثم موسكو , ثم عاش في مدن إسبانيا مدة طويلة ... احتوى الديوان على إحدى وعشرين قصيده منا تسع قصائد ورد فيها اسما صريحا للمدينه وهي كالتالي :
قصيدة الموت في الظهيرة :

من حقول النور من أفق جديد

قطفته يد قدس شهيد

يد قديس ثائر

ولدته ليالي بعثها الجزائر

. . . . . .

وستبقى بعده الشمس هنالك

في ليالي بعثها , شمس الجزائر

تلد ُائر في أعقاب ثائر
"للربيع والأطفال " ورد فيها ذكر مدينة بغداد :

كأعين الموتى على طريق بغداد

كانت أعين الأطفال

تبكي وتبكي :

إنه الربيع

عاد إلى بلادنا بلا فرشات بلا أوراد

وفي بلادي يصنعون الخمر من دموع أمواتنا

ومن دم الأطفال

ويصلبون الشمس في ساحات

مدينتي الموصدة الأبواب

مدينتي : بغداد

بلا مراجيح بلا أعياد

أما قصيدته موعد في المعرة :

والتقينا في المعرة

وعلى بردتك زهرة

وغمامة

تمطر قطرة تلو قطرة

وحمامة تغني في بساتين المعرة
ويعود لذكر مدينة بغداد في قصيدة ثانية في الديوان نفسه وهذا دليل عى عشقه الأبدي الأسطوري لمدينته الأم القصيدة بعنوان " موال بغدادي " قال فيها :

بغداد يامدينة النجوم

والشمس والأطفال والكروم

والخوف والهموم

متى أرى سماءكِ الزرقاء ؟

تنبض باللهفة والحنين

متى أرى دجلة في الخريف ؟

ملتهبا حزين

تهجره الطيور

وأنتِ _ يا مدينة النخيل والبكاء _

ساقية خضراء

وهذه قيصدة "أغنية إلى ولدي علي " يرد ذكر مدينته الأم للمرة الثالثة في الديوان نفسه كما انه يأتي على ذكر لبنان فهو بهذه الفترة كان يعيش في بيروت فكان لها نصيب من قصائده :
ليل عذابي الدامس الأخير

يبرق في غابات

" لبنان " في أنات

فؤوس حطابيه في موال راعيه

تشعل الجبال

غرامها الليال

يبرق في دموع

أمك , في أبيات قصائدي الخضراء

في صورة العذراء

يبرق في بغداد _وهي تغني الحب والسلام

ومدينة الجلاد في صدرها تغور _

عيون عرئس الأطفال واليمام


مدينة دمشق احتلت في قلب الشاعر مكانة لارتباطها بابن العربي أكبر شعراء المتصوفة فكتب لها قصيدة " بطاقة بريد إلى دمشق" :

والتقينا , يادمشق

وعلى معطفك الأخضر ثلج

وعصافير وغابات وورد

وبحار لا تحد

أنت فيها , يا بساط الحب موج ,

ومناديل وشوق

وبيعنك من الصحراء شمس


ولم يغفل البياتي مصر ومدنها فقد أفرد مدينة بور سعيد بقصيدة " بور سعيد ":
على رخام الدهر بور سعيد

قصيدة مكتوبة بالدم والحديد

قصيدة عصماء

قصيدة حمراء تنزف من حروفها الدماء

تهدر من رو يّها المنتصر الجبار

صيحات فجر الثأثر
وهذه طهران في قصيدة "الرجل الذي كان يغني ":

على أبواب( طهران ) رأيناه

رأيناه يغني

عمر الخيام و يا أخت ظنناه

على جبهته جرح عميق فاغر فاه

. . . . .

على أبواب طهران رأيناه

يغني الشمس في الليل

يغني الموت والله

على جبهته جرح عميق فاغر فاه


هذه قصائد الديوان التي ورد اسم المدينة أما القصائد الأخرى فقد كانت فيها المدينة لكن ليس باسم .
أبدأ بتحليل القصيدة التي وجهها إلى منفاه الأول " دمشق" قصيدة
* " بطاقة بريد إلى دمشق " نلاحظ أن الشاعر عند وصفه دمشق تمتزج مشاعره في تناقض ما بين الكره والحب فالكره سببه أنها أول مدينة نفي إليها وحرم من أمه بغداد ولكنه في ذات الوقت يحمل حبا لتلك المدينة التي ظهر فيها ذلك البطل منقذ الامة في رأيه ابن عربي فنراه يتغنى بدمشق :

والتقينا يادمشق

وعلى معطفك الأخضر

ثلج وعصافير وغابات ورد

أنت فيها يا بساط الحب

, موج ومناديل وشوق


يخاطب الشاعر دمشق وأنه التقاها بعد غياب ويصور منظر جمالي فيها يؤثر بكل زائر فقد تميز بطبيعة نادرة إذ يختلط فيه الثلج مع الخضرة كما تفيح فيه رائحة الورد معطرة مكانا مليء بالعصافير لها وهو جبل قاسيون الذي صور له جده ان ابن عربي هو الذي أرجعه للعرب . وينتقل بنا ليصور ما عناه أو يعانيه من ضيق مادي في وطنه :

وبعينيكٍ من الصحراء شمس

فوق بيتي الموحش البارد ترسو فوق غاب السوسن

في براري وطني

حيث لا أملك إلا كفني

حيث فأسي أبدا تحفر في أعماق نفسي


وينقلنا الشاعر لصورة أخرى ليدخلنا عالم شوقه لدمشق إذ يقول :

مثل الجندي من الجبهة عائد

مثل طائر عائد من أرض الجزائر

تهالكت على أرضكِ في شوق اعانق

كل ماأعبد فيها واحب


هكذا تعلق الشاعر بهذه المدينة إذ لايستطيع أن ينسق تدافع الأشواق وكلماتها فهي تتسابق لإيصال شوقه :

كانت الأحرف في نفسي تناضل

وتغني في ليلها قوافل .



* وفي قصيدة "موعد في المعرة " تلك المدينة التي كان لها موضوعا في قلب الشاعر لارتباطها بأبي علاء المعري :

والتقينا في المعرة

وعلى بردتك البضاء زهرة

وغمامة

تمطر الأرض التي غنيتها

تمطر قطرة تلو قطرة

وحمامة

تتغنى في بساتين المعرة :

صاحِ هذه أرضنا من ألف ألف تتنهد

وعليها النار والعشب

عليها النار والعشب

عليها يتجدد


يبدوا في هذا المقطع أن الشاعر يرىمدينة معرة النعمان جميلة لارتباطها بشيخها" المعري " إذ التقيا فيها روحيا وصور له لابسا بردة بيضاء موشاه بزهر وعمامة وهي تستقبل حبات المطر هذه الصورة الزاهية تظهر حركة التجدد والنبعاث التي تعيشها الأمة العربية وهنا تصبح المعرة وجها مشرقا للأمة إذ يغني في بساتينها الحمام , والحمام دلالة على السلام .

صاحِ إنا

أبدا من عهد عاد نتغنى

والأقاحي والقبور

تملأ الأرض , ولكنا عليها نتلاقى

في عناق وقصيدة

مثل أطفال نغني , نتساقى

خمرة الحب الذي أبلى جديده

إننا نذبل كالورد




في بداية هذا المقطع يتخيل الشاعر أنه يتحدث مع المعري ويناديه " صاحِ " ويشكو له حال الأمة وأن الأرض مغتصبة والصراع يدور فيها بين الحرية وقد رمز لها بالعشب ’ والأعداء هم النار التي تحاول منع هذا العشب من النمو .
كما أنه يذكر صفة في العرب وكيف أنهم يتمجدون بالتاريخ لكن دون أن يستفيدوا منه.

يارهين المحبسين

قم ترى الأرض تغني ,والسماء

وردة حمراء, والريح غناء

قم ترى الأفق مشاعل

وملايين المساكين تقاتل

في الدجى من أجل أن تطلع شمس


أما هنا فيدعو الشاعر المعري لينهض ويرى أن هناك أبطال يقاتلون من أجل الحرية واستقلال البلاد العربية .

* " الموت في الظهيرة " كتب هذه القصيدة ورثاء الزعيم الوطني الجزائري العربي بن مهدي الذي استشهد في زنزانته بعد التعذيب من قبل الفرنسيين .
من القراءة الأولى يظهر أن العنوان يحمل بعا تشاؤميا , وله دلالات كثيرة نستخلصها من لفظة " الظهيرة " فالظهيرة قد يكون المقصود منها أن جريمة العدو تمت في وضح النهار دون خوف من سخط الشعب , أما الدلاة الثانية الأخرى فقد تكون أن وقت الظهيرة هو وقت راحة واسترخاء للإنسان وهذا قد يحمل معنى أن جريمة العدو تمت في الخفاء , وأنا أرجح الدلالة الأولى لأن من يقوم بجريمة لايخشى العقاب .

نلاحظ في هذه القصيده الصورة السوداوية والإحساس بالظلم فقد عكس لون القمر من الأبيض إلى الأسود وذلك بسبب الظلم الواقع في قوله :

قمر أسود في نافذة السجن , وليل


فاليل كناية عن الستر ولكنه ليس الستر الحميد بل هو ستر الظلم من قبل المحتلين .
وفي قوله :

وحمامات وقرآن وطفل

أخضر العينين يتلو

سورة " النصر" وفل


لعل هذه الرموز تشير إلى مرجعية الزعيم الوطني , فمرجعيته الإسلام " وقرآن " , وصورة النصر دلالة على تأمله بالنصر القريب واستقلال الجزائر .

وفل من حقول النور , من أفق جديد

قطفته يد قديس شهيد

يد قديس ثائر


وفي هذا الشطر نلاحظ أن كلمة " فل " تحمل دلالتين فقد تكون لدلالة على الشهادة , أو للدلالة على الثورة وكلا الدلاتين تعطيان معنى يسمو إلى " أفق جديد " , وشبه أرض الجزائر بالحقل الذي الذي ينبع منه الفل , وهذا الفل بدلالته الأولى حظي به الزعيم الوطني وفي دلالته الثانية حظي هو بأرض الجزائر فهي مكان للثورة والجهاد .
وأضاف البياتي في قصيدته :
ولدته في ليالي بعثها شمس الجزائر

ولدته الريح والأرض وأشواق الطفولة

وعذبات ربيع في خميلة وانتصارات وحمى وبطولة ....

وحمامات وقرآن وليل

صامت يمسح عن كفييه آثار الجريمة

قمر أسود

آثار الجريمة

وعلى الجدران ظل

يتدلى رأسه يسقط ثلج

فوق عينيه وترب وجنادل

فوق عيني ذلك الطفل المناضل


وشمس الجزائر في كل يوم تشرق فيه يولد ثائر جديد يولد وبيده السلاح الذي استله من الريح والأرض وأشواق الطفولة وجمال الربيع , والدين ينبع من الأرض .
الأرض التي حاول الفرنسيون قتلها وإخفاء أثار جريمتهم النكراء التي لازالت أثارها على الجدار الصامد والشاهد على هذه الأفعال التي تقع أمام ناظري الأطفال المناضلين .
ويكمل القصيدة :

كان في نافذة السجن مع العصفور يحلم

كان مثله يتألم

كان سرا مغلقا لا يتكلم

كان يعلم :

أنه لا بد هالك

وستبقى بعده الشمس هنالك في ليالي بعثها , شمس الجزائر

تلد الثائر في أعقاب الثائر







يصف هنا ذلك السجن المكون من غرفة جدرانها سوداء لا يوجد فيها إلا نُفيذة يطل من خلالها عصفور كان يحلم معه السجين بالحرية إذ كان يرى نفسه يتألم وفمه بابا مغلقا كان يعلم أنه والعصفور لهما نهاية واحدة وهي إما الحرية التي نالها العصفور والتي يستحيل أن ينالها الثائر , والحلم الآخر الذي يستبعده العصفور ويقربه الثائر هو الموت " الشهادة " عند الثائر .

وستبقى شمس الجزائر هنالك في ليالي بعثها شمس الجزائر

تلد الثائر في أعقاب الثائر

وأَ خلُص أن الشاعر قد تناول في قصيدته حالة الشهيد العربي بن المهدي من كل زواياها ولم يغفل حتى تأملاته وهو ينظر من نافذة السجن وكيف أن جدار هذا السجن كانت شاهدة على تعذيبه ومعانته .
كما ألحظ وجود ازدواجية في العاطفة فقد أورد عاطفة الحزن بجانب التفاؤل والأمل لوجود ثوار جدد مع كل شروق لشمس الجزائر .
وبعد التحليل أجد أن الشاعر أورد لفظة " الجزائر " ولم يورد غيرها في هذه القصيدة لارتباطها الوثيق بحادثة قتل الزعيم الوطني العربي بن المهدي .

الهوامش
( 1) تاريخ الشعر الحيث _ أحمد قبش _ دار الجيل بيروت _ دط _ دت _ ص 661

الخـاتـمـة
في بداية الخاتمة الحمد لله الذي أعانني على إنجاز هذا البحث .
أستطع أن أقول في ختام هذا البحث أن الشعر العربي الحديث قد اتخذ من المدينة في البداية موقفا ناقما رافضا , وهذا بسسبب الغربة والضياع اللذان عانا منهما شعراؤنا , إذ كان مفهوم المدينة بالنسبة لهم مقرون بالضياع , والقساوة, والآلة , فكان رفضهم لها رفضا رومنسيا في البداية .
وهذا ما نجده عند عبد الوهاب البياتي الذي بدأ شعره المدني _ الذي تناول فيه المدينة_ رافضا للمدينة بكل حضارتها , ولم يؤمن بها ولا لها , ولكنه في سفره وتنقلاته لم يستسلم لنفوره بل حاول صنع علاقة حميمة بينه وبين المدينة ,وتغيب الكره وإحلال عاطفة الارتياح للمدينة , مع أن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب من البياتي إنغماسا يرافقه بحث عن مدينة الحلم .

المصادر والمراجع:


1. اتجاهات الشعر العربي المعاصر _ إحسان عباس _ دار الشوق _ عمان _ط2 _ 1992م

2. الاغتراب في الشعر العربي المعاصر(مرحلة الرواد) _ حميد راضي جعفر _اتحاد الكتاب العرب _ دط _ 1999م

3. الشاعر عبد الوهاب البياتي من مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني _ د.محمود صابر عباس _ دار الكرمل _ عمان _ ط1_ 2001 م

4. الشعر العربي وقضاياه وظواهره الفنية والمعنوية _ عز الدين إسماعيل _ دار العودة _ بيروت _ ط1972م

5. القيثارة والذاكرة _ عبد الوهاب البياتي _ دار مواقف عربية _لندن _ ط1_ 1994م

6. المدينة في الشعر العربي المعاصر _ مختار أبو غالي _ عالم المعرفة _الكويت _ نيسان _1995 م

7. الموقف من المدينة في الشعر العربي المعاصر _ السعيد الورقي_دار المعرفة _إسكندرية _ دط _1991 م





8. تاريخ الشعر العربي الحديث _ أحمد قبش _ دار الجيل _ بيروت _دت _دط

9. تجربتي الشعرية _ عبد الوهاب البياتي _ المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ بيروت _ ط3 _ 1993م

10. ديوان صلاح عبد الصبور _ قصيدة حب في هذا الزمان

11. ديوان عبد الوهاب البياتي ج1 _ قصيدة مسافر بلا حقائب

12. ديوان قراءة ثامنة _ حميد سعيد _ دار الأدب _ بيروت _ 1972م

13. ديوان مدينة بلا قلب أحمد عبد المعطي حجازي _ قصيدة " كان لي قلبا "

14. شعر عبد الوهاب البياتي والتراث _ سامح الرواشدة _ دار الثقافة _ عمان _ ط1_ 1996م

15. عبد الوهاب البياتي ما يبقى بعد الطوفان _ عدنان الصائغ _ نادي الكتاب العربي _ لندن _ ط1 _ 1996م

16. عبد الوهاب البياتي رحلة الشعر والحياة _ عبد اللطيف أرناؤوط _ مؤسسة المنارة _ بيروت _ دط _ 2004م






نظرات:



متن امنیتی

گزارش تخلف
بعدی