الادب المقارن

الأدب المقارن

 

    یُعدُّ مصطلح «الأدب المقارن» comparative literature مصطلحاً خلافیاً لأنه ضعیف الدلالة على المقصود منه. وقد نقده كثیر من الباحثین ولكنهم فی النهایة آثروا الاستمرار فی استعماله نظراً لشیوعه. فمثلاً عدّه بول فان تییغم Paul Van Tieghem[ر] مصطلحاً غیر دقیق, واقترح مصطلحات أخرى أقرب دلالة إِلى موضوعه مثل: «تاریخ الأدب المقارن», و «التاریخ الأدبی المقارن», و «تاریخ المقارنة». واقترح ماریوس فرانسوا غویار M.F.Guyard مصطلحاً بدیلاً هو «تاریخ العلاقات الأدبیة الدولیة». والملاحظ أن كلمة «تاریخ» هی المضافة فی مختلف الاقتراحات البدیلة, ذلك أن الأدب المقارن هو فی الأصل تاریخ للعلاقات المتبادلة بین الآداب وللصلات والمشابهات المتجاوزة للحدود اللغویة والجغرافیة, وفیما بعد أضیفت الحدود المعرفیة.

    وعلى أیة حال یبدو أن افتقار المصطلح إِلى الدقة كان له بعض فضل فی الإِبقاء على وحدة هذا النسق المعرفی وفی مقدرته على استیعاب مناطق معرفیة جدیدة, أخذت تدخل نطاقه بعد منتصف القرن العشرین.

    وترجع نشأة الأدب المقارن إِلى العقد الثالث من القرن التاسع عشر, وربما إِلى سنة 1827 حین بدأ الفرنسی أبل فییمان Abel Villemain یلقی محاضرات فی السوربون بباریس حول علاقات الأدب الفرنسی[ر] بالآداب الأوربیة الأخرى. والجدیر بالذكر أنه استعمل فیها مصطلح «الأدب المقارن» وإِلیه یعود الفضل فی وضع الأسس الأولى لمنطقه ومنطقته, فی وقت بدأ یشهد تصاعد اهتمام العلوم الإِنسانیة فی أوربة بالبعد المقارنی فی المعرفة, إِذ نشأ «القانون المقارن» و«فقه اللغة المقارن» و«علم الاجتماع المقارن» وغیرها. وتعدُّ فرنسة المهد الأول للأدب المقارن, إِذ استمرت تطوراته بعد فییمان, وكان لذلك عوامل لغویة وسیاسیة واجتماعیة وثقافیة متداخلة أدّت إِلى أن یكون الفرنسیون أول من تنبّه إِلى قیمة التراث المشترك بینهم وبین المناطق الأوربیة الأخرى, مما خلق الأساس الأول للتفكیر المقارنی.

    وفی البدء كان التطور بطیئاً, فبعد فییمان ظهر جان جاك أمبیر Ampére وألقى فی مرسیلیة سنة 1830 محاضرات فی الأدب المقارن لفتت إِلیه الأنظار وأتاحت له أن ینتقل بعد ذلك بسنتین إِلى باریس لیلقی محاضرات حول علاقات الأدب الفرنسی بالآداب الأجنبیة. وفی سنة 1835 ظهرت مقالات فیلاریت شال Chales على صفحات مجلة باریس مؤكدة العلاقات المتینة بین الآداب الأوربیة.

    وعند نهایة القرن التاسع عشر أخذت تتلاحق التطورات وظهر جوزیف تكست Texte  فی لیون (1896) وحاضر فی الأدب الأوربی, وخلفه على منبر لیون فرنان بالدنسبرجیه F.Baldensperger الذی ألف كتابه «غوتة فی فرنسة» سنة 1904, ثم سُمی أستاذاً فی السوربون حینما أحدث فیها كرسی للأدب المقارن سنة 1910 وظهرت بعد ذلك مجلات وفهارس, وعرف الأدب المقارن طریقه إِلى التطور النسقی منذ مطلع القرن العشرین. وإِلى جانب فرنسة سجلت بعض البلدان الأوربیة إِسهاماً نسبیاً فی نشأة الأدب المقارن, وكانت إِسهاماتها تتزاید مع تزاید نزعة «العالمیة» فی المعرفة ومع تزاید قوة الاتصالات والمواصلات فی العالم. وقد ظهر أول كتاب فی بریطانیة عن الأدب فی أوربة بین عامی 1837-1839, لهنری هالام H.Hallam, غیر أن التطورات بعده كانت شدیدة البطء. وفی ألمانیة تأخر ظهور الأدب المقارن حتى ثمانینات القرن التاسع عشر, واشتُهر من مؤسیسه ك مورهوف K.D.Morhof وشمیدت Schmidt كارییه M.Carriére,  ولم یدخل الأدب المقارن نطاق الدراسة المنظمة إِلا بعد سنة 1887 بفضل ماكس كوخ Max Koch الذی أصدر مجلة «الأدب المقارن». ولكن دخول الأدب المقارن إِلى مناهج الجامعة لقی معارضة شدیدة وتأخر حتى مطلع القرن العشرین.

    وتعرقل ظهور الأدب المقارن فی إِیطالیة بسبب حدة النزعة القومیة. وفی عام 1861 أمكن إِنشاء كرسی له فی جامعة نابولی. ولكن كروتشه B.Croce[ر] تصدى للأدب المقارن وشنّ على أنصاره حملة قویة وحاول تسفیه منطقه, وبذلك كان له أثر فی تاریخ تطور الدراسة المقارنة فی إِیطالیة بسبب ما كان یتمتع به من نفوذ فكری.

    وإِذا كانت نهایة القرن التاسع عشر قد شهدت تطور الأبحاث التطبیقیة فی الأدب المقارن وبدء الاعتراف به فی الجامعات فإِن بداءة القرن العشرین شهدت تأسیس الوعی النظری لمنهج الأدب المقارن. وقد تابعت فرنسة تطورها السباق فنشأت فیها كراسٍ جدیدة للأدب المقارن فی الجامعات. ومنذ سنة 1911 أخذ فان تیغم ینشر مقالات نظریة فی المنهج المقارنی. وفی عقد واحد تبلورت نظرته إِلى الأدب المقارن فی مقالاته فی مجلة «الأدب المقارن» ورصیفتها مجلة «مكتبة الأدب المقارن».

    وفی عام 1931 أصدر فان تییغم أول كتاب نظری عرفه العالم بعنوان «الأدب المقارن», وظل هذا الكتاب مرجعاً أساسیاً فی بابه حتى الیوم, وترجم إِلى عدد كبیر من اللغات, ومنها اللغة العربیة فی منتصف القرن العشرین. وتتابعت بعد ذلك المؤلفات الفرنسیة فی الأدب المقارن نظریة وتطبیقاً, ومن أشهرها كتاب غویار «الأدب المقارن» عام 1951 وترجم كذلك إِلى العربیة عام 1956. وبدءاً من هذا التاریخ أخذت تظهر فی فرنسة تحدیات لما یمكن تسمیته بالنظریة الفرنسیة التقلیدیة فی الأدب المقارن, وكان أبرزها الهجوم الحاد الذی شنّه رنیه إِیتیامبل R.Etiemble على فان تییغم وغویار, وظهر بعد ذلك فی كتابه «الأزمة فی الأدب المقارن».

    وقد تعثر الأدب المقارن فی الدول الأوربیة الأخرى ولم یصب تطوراً فی بریطانیة ربما حتى تسعینات القرن العشرین وكذلك كان شأن ألمانیة وإِیطالیة والاتحاد السوفییتی. وإِن كان ملاحظاً أنه ابتداء من الستینات انتعش الأدب المقارن فی القارة الأوربیة والعالم كله, وذلك مع ازدیاد نشاط الرابطة الدولیة للأدب المقارن AILC. وزاد من قوة هذا التطور النشاط الأمریكی المتسارع فی مجال البحث المقارنی وفی المؤتمرات الدولیة, والحق أنه فی سنوات معدودات حقق المقارنون الأمریكیون حضوراً مرموقاً فی مختلف أوجه البحث المقارنی مع أن الولایات المتحدة دخلت متأخرة نسبیاً فی حقل الأدب المقارن. ومن أجل استكمال الخریطة العامة لنشأة الأدب المقارن تحسن الإِشارة إِلى التواریخ الرئیسیة التالیة:

    1889 تولى تشارلز جیلی C.M.Geyley تقدیم مادة النقد الأدبی المقارن فی جامعة میشیغن, ثم انتقل إِلى جامعة كالیفورنیة وأنشأ عام 1902 قسماً للأدب المقارن. 1890-1891 أنشأت جامعة هارفرد أول كرسی للأدب المقارن فی أمریكة, تحول عام 1904 إِلى قسم كامل. وفی سنة 1946 تولى رئاسته هاری لیفین Harry Levin وأعاد النظر فی برامجه, وخلفه ولتر كایزر W.Kaiser.

    1902 جرى إِحیاء كرسی قدیم للأدب العام یعود إِلى سنة 1886 فی جامعة كورنل Cornell على ید كوبر الذی أصبح فیما بعد رئیساً لقسم كامل للأدب المقارن فیها من 1927-1943.

    على أن دراسة الأدب المقارن فی أمریكة ظلت حتى العشرینات مختلطة بـ «الأدب العام» و«أدب العالم» و«الروائع» و«الإِنسانیات». وفی الأربعینات بدأ یظهر تمیزه فی الجامعات وصاحب ذلك ظهور مجلات للأدب المقارن فی عدة جامعات مثل أوریغون Oregon عام 1949. ومن أهم التطورات فی هذا المجال صدور المجلد الأول من «الكتاب السنوی للأدب العام والمقارن Yearbook of General and Comparative Literature» وذلك عن جامعة (نورث كارولینة) عام 1952.

    وفی عام 1961 انتقلت إِدارة الكتاب إِلى جامعة إِندیانة Indiana, وما زال یصدر عنها حتى الیوم.

    ومنذ الخمسینات بدأت تتوالى الكتب الجامعیة فی الأدب المقارن, وتسود فیها طریقة التألیف الجماعی أو الدراسات المجموعة, وتتنوع مادة هذه الكتب بین النظریة والتطبیق كما تتنوع وجهات النظر. ومن أبرز التطورات فی تاریخ الأدب المقارن تأسیس الرابطة الدولیة للأدب المقارن عام 1955. وتعقد هذه الرابطة مؤتمراتها العامة كل ثلاث سنوات ولها نشاطات متنوعة, وقد عقد مؤتمرها الأول فی البندقیة بإِیطالیة. ومنذ ذلك الحین انحصرت مؤتمراتها واجتماعاتها فی العواصم الغربیة, حتى عام 1991 عندما عقد مؤتمرها الثالث عشر فی طوكیو, وفی ذلك إِیذان بتزاید إِسهام الیابان فی الأدب المقارن, وبخروج الرابطة جغرافیاً من بوتقة الغرب. على أن الأدب المقارن بقی حتى الیوم علماً غربیاً, وبقی إِسهام المنظومة الاشتراكیة فیه محدوداً, وأقل منه إِسهام البلدان النامیة.

    ومنذ البدء اختلط مفهوم «الأدب المقارن» بمفهومی «الأدب العام» و«الأدب العالمی». والملاحظ أنه حتى نهایة الثمانینات وبعد كل ذلك التطور المهم الذی حققه الأدب المقارن, ما زالت هذه المفهومات مختلطة حتى فی بعض الجامعات العریقة. ومن هنا كان الربط الدائم بین الأدب المقارن والأدب العام فی تسمیات الأقسام الجامعیة فی دول أوربیة كثیرة. كذلك یلاحظ أن الكتاب السنوی الأمریكی ما زال یحمل تسمیة الأدب العام إِلى جانب الأدب المقارن. وقد آن أوان التفریق بین هذه الحقول المعرفیة الثلاثة.

    فالأدب العالمی world literature مصطلح من وضع غوته[ر], وكان ینطوی على حلم بزمان تصیر فیه كل الآداب أدباً واحداً. ولكنه تحول بالتدریج إِلى الدلالة على تلك السلسلة الذهبیة من الأعمال الأدبیة التی قدمتها قرائح من مختلف شعوب العالم, وترجمت إِلى اللغات المختلفة, واكتسبت صفة الخلود, وارتفعت إِلى مصاف الروائع classics المعترف بقیمتها الفنیة والفكریة فی كل أنحاء العالم, وبالطبع تنضوی هذه الروائع تحت تخصصات الأدب المقارن. والملاحظ أن سلسلة الروائع العالمیة ظلت حتى ستینات القرن العشرین تحت تأثیر المركزیة الأوربیة Euro- centralism, ولكنها أخذت تتسع بالتدریج لبعض الأعمال خارج نطاق الغرب, ربما بتأثیر نمو التبادل الثقافی والتوسع فی مفهوم الجوائز الأدبیة العالمیة.

    أما الأدب العام general literature فمصطلح استعمل غالباً لوسم تلك الكتابات التی یصعب أن تُصنَّف تحت أی من الدراسات الأدبیة والتی تبدو ذات أهمیة متجاوزة لنطاق الأدب القومی. وهی أحیاناً تشیر إِلى الاتجاهات الأدبیة أو المشكلات أو النظریات العامة فی الأدب, أو الجمالیات. كما صُنِّفت تحت هذا العنوان مجموعات النصوص والدراسات النقدیة والتعلیقات التی تتناول مجموعة من الآداب ولا تقتصر على أدب واحد. وهكذا یتطابق الأدب العام أحیاناً مع مبادئ النقد ونظریة الأدب, أی مع كل دراسة أدبیة تركز على التنظیر ولا تقتصر أمثلتها على أدب واحد.

    ویقل استعمال مصطلح «الأدب العام» الیوم ویكاد ینحصر فی الدلالة على أنواع متفرقة من الدراسات الأدبیة التی یصعب أن تُصنف فی نطاق الأدب القومی أو العالمی أو المقارن.

    ولم تزل الخلافات بشأن منطق الأدب المقارن ومنطقته قائمة حتى الیوم وإِن كانت تضیق تدریجیاً لتفسح فی المجال لمفهوم مشترك سیجری تحدید عناصره هنا بعد استعراض تاریخیّة اتجاهات الأدب المقارن.

    إِن المفهوم الأصلی للأدب المقارن هو مفهوم ما یسمّى جوازاً «المدرسة الفرنسیة التقلیدیة», إِذ حدد مؤسسها الفعلی بول فان تییغم الأدب المقارن «بأنه دراسة آثار الآداب المختلفة من ناحیة علاقاتها بعضها ببعض» كما أكد جان ماری كاریه أن الأدب المقارن یعتمد على مفهوم التأثر والتأثیر من خلال الصلات بین الآداب أو الأدباء من بلدان مختلفة, واستبعد المقارنات غیر القائمة على الصلات من منهجیة الأدب المقارن. كما رفض كل من كاریه وغویار فكرة التطابق بین الأدب العام والأدب المقارن. وعدّ غویار الأدب العام والأدب العالمی « مطمعین غَیْبییّن» وآثر أن یسمی الأدب المقارن, تاریخ العلاقات الأدبیة الدولیة. وقد تمسكت هذه المدرسة بالمنهجیة التاریخیة الصارمة, وحاولت تمییز منهجیة الأدب المقارن ومنطقه ومنطقته من سائر الدراسات الأدبیة واقتربت من العلمیة والحیاد, وتناولت أحیاناً بمهارة, وأحیاناً بآلیة جامدة, مسائل مثل الشهرة الأدبیة والنفوذ مثل غوتة فی فرنسة, وطوّرت منهجاً یذهب إِلى أبعد من جمع المعلومات التی تتعلق بالمراجعات والترجمات والتأثیرات لیتفحص الصورة الفنیة ومفهوم كاتب معیّن فی وقت معیّن إِلى جانب عوامل النقل المتعددة كالحولیات والمترجمین والصالونات والمسافرین, وكذلك وجّهت انتباهها إِلى عوامل التلقی والجو الخاص والوضع الأدبی الذی أدخل فیه الكاتب الأجنبی, وبالإِجمال :«فقد تم جمع كثیر من الشواهد عن الوحدة الصمیمة بین الآداب الأوربیة خاصة, كما ازدادت معرفتنا بالتجارة الخارجیة للأدب».

    غیر أن هذه المدرسة ما كادت تستوی على قدمیها وتحقق وجوداً أكادیمیاً معترفاً به حتى انبثقت من أحشائها أصوات معترضة تنكرها أشد إِنكار, وقام رنیه إِیتیامبل فی الخمسینات, على رأس مجموعة من الكتاب الیساریین, بمهاجمة هذه المدرسة على أساس أنها تمثل المركزیة الأوربیة الاستعماریة وأنها قدمت آداب العالم جمیعاً كما لو كانت منبثقة من بحر الآداب الأوربیة أو منصبةً فیه, ولم تُعط آداب آسیا وإِفریقیة وأمریكة اللاتینیة حقها من البحث والاستقصاء. وقد هاجم إِیتیامبل زمیله غویار واتهمه بالتعصب الإِقلیمی والقومی وتركیز كل أضواء التأثیر على الأدب الفرنسی, وطالب المقارنین أن ینحّوا جانباً «كل شكل من أشكال الشوفینیة والإِقلیمیة وأن یعترفوا أخیراً أن حضارة الإِنسانیة التی جرى فی سیاقها تبادل القیم على مدى آلاف السنین لا یمكن أن تُفهم أو تتذوق من دون إِشارات متواصلة إِلى هذه التبادلات التی تقتضی تركیبتها منا ألاّ نركّز نظام بحثنا حول لغة واحدة معینة أو بلد واحد معیّن».

    وابتداء من الستینات بدأت الأفكار الأمریكیة ذات الطابع العملی والانفتاحی تسیطر على ساحة الأدب المقارن. وقدم رینیه ویلك نظرات تركیبیة شمولیة وفی الوقت نفسه انبرى هنری رِماك H.Remak بتقدیم اتجاه جاد للخروج من المعضلة, وذلك فی مقالة منقحة ومزیدة ومفصلة عام 1971, وفیها راجع مفهومات الأدب المقارن واتجاهاته بنفسٍ علمی جریء ومسؤول وانتهى إِلى توسیع منطقه ومنطقته على النحو التالی:

    «الأدب المقارن هو دراسة الأدب خلف حدود بلد معیّن, ودراسة العلاقات بین الأدب ومجالات أخرى من المعرفة والاعتقاد مثل الفنون كالرسم والنحت والعمارة والموسیقى, والفلسفة, والتاریخ, والعلوم الاجتماعیة كالسیاسة والاقتصاد والاجتماع, والعلوم, والدیانة, وغیر ذلك. وباختصار هو مقارنة الأدب بمناطق أخرى من التعبیر الإِنسانی».

    ویلاحظ على هذه التعریف: أنه ینطلق من فكرة التأثر والتأثیر لیتجاوزها إِلى المشابهة أی أنه یركز على العلاقات ولا یجعلها شرطاً لازماً, وأنه یضیف بعداً جدیداً إِلى منطقة الأدب المقارن بدفعه إِلى دراسة العلاقات بین الأدب وحقول المعرفة الأخرى ولاسیما الفنون. وبذلك یسجل نقطة إِضافیة شدیدة الأهمیة. وقد بدا رماك متساهلاً فی موضوع صلة الأدب المقارن بالتذوق الأدبی, ولكنه بالنتیجة احتفظ بجوهر منطق الأدب المقارن وهو دراسة الأدب خارج حدوده الجغرافیة واللغویة والمعرفیة. وتبدو نظریة رماك أكثر قبولاً الیوم فی العالم.

    ومن الملاحظ أن بلدان أوربة الشرقیة لم توجه عنایة خاصة للأدب المقارن, وكانت منطلقاتها بوجه عام مستوحاة من ثورة إِیتیامبل. وتُعدُّ هنغاریة ویوغسلافیة أكثرها احتفاءً بالأدب المقارن.

    والملاحظ أنه جرى دائماً تساؤل حول وظیفة الأدب المقارن وامتحان لها. ومثل هذا التساؤل لا یتم عادة إِلا على الحقول المعرفیة المستجدة, ذلك أن العلوم لا تقدم نفسها تقدیماً نفعیاً مباشراً. ومع ذلك یمكن القول إِن الأدب المقارن:

    ـ یقدم فهماً للأدب أفضل وأكثر شمولاً وأقدر على تجاوز جزئیة أدبیة منفصلة أو عدة جزئیات معزولة.

    ـ ویمیز ما هو محلی وما هو إِنسانی مشترك.

    ـ ویحدد الصلات والمشابهات بین الآداب المختلفة وبین الأدب وحقول المعرفة الأخرى.

    ـ ویسهم فی تخلیص الأقوام من النزعة الشوفینیة والنرجسیة المسیطرة فی مجال الآداب القومیة المختلفة.

    ـ ویقدم للنقد الأدبی ودارسی الأدب فرصة ممتازة لتوسیع آفاق معرفتهم وتوثیق أحكامهم حتى الجمالیة منها, لأن المقارنة تبقى أقوى أسلحة الناقد إِقناعاً.

    ـ ویقدم فرصة ممتازة لتطور نظریة أدبیة قائمة على فهم طبیعة امتدادات الأدب خارج حدوده.

    وقد جرت الإِشارة فی ثنایا البحث إِلى أعلام الأدب المقارن البارزین وإِلى أبرز المؤسسات والمنظمات والمجلات التی تُعنى به وتضع نفسها فی خدمة مجالاته.

    وإِذا انتقل الدارس إِلى الأدب العربی وجد أن الأدب المقارن حقل معرفی فتی لا تكاد تبین له أصول فی التراث الأدبی القدیم, ذلك أنه كان لدى العرب فی الماضی اعتداد خاص باللغة والشعر وإِشاحة نسبیة عن آداب الأمم الأخرى, مما أدّى إِلى أن یكون نشاطهم فی حقل التبادل الأدبی أقل من نشاطهم فی الحقول المعرفیة الأخرى كالعلوم والفلسفة على أن غیر العرب تأثروا تأثراً واضحاً بالأدب العربی فدرسوه وألّفوا على غراره. وفی عصرنا الحاضر ما زال هذا التیار من الاعتداد بالأدب واللغة فاعلاً بحیث یخلق رأیاً عاماً لا یستریح إِلى المقارنات مع الآداب الأخرى ویجهد فی تأكید الأصول العربیة للفنون الأدبیة الوافدة كالقصة والمسرح. ومن الملاحظ أن معظم الأدباء البارزین فی عصر النهضة كانوا أكثر انفتاحاً فی مجال التفاعلات الأدبیة, ووضعوا أساساً لنهضة الأدب المقارن فی عصرنا. وكان لرواد النهضة الأدبیة فی الشام أثر كبیر فی الاستنارة الأدبیة, وهكذا لمعت, إِلى جانب بناة النهضة من أبناء الكنانة مثل رفاعة الطهطاوی[ر] وعلی مبارك[ر] والشیخ حسن المرصفی, أسماء شامیة مبكرة فی مجال المقارنة مثل أدیب إِسحاق[ر] وأحمد فارس الشدیاق[ر] ونجیب الحداد, وتمیز من بینهم علمان بارزان, هما سلیمان البستانی[ر] وروحی الخالدی[ر], وضعا حجر الأساس للبحث التطبیقی فی الأدب المقارن على الرغم من أنهما لم یشیرا إِلى المصطلح بكلمة واحدة.

    وتتلخص جهود البستانی فی هذا الحقل بتعریب «الإِلیاذة» الذی استغرق منه ثمانی سنوات (1887-1895) وبمقدمتها المقارنیة التی استغرقت منه ثمانی سنوات أخرى, وقد أنجز شروح الإِلیاذة ومقدماتها فی 200 صفحة أواخر سنة 1903. وأجرى البستانی مقارنات جریئة بین الملحمة الیونانیة والشعر القصصی العربی وأكد وجود ملاحم عربیة قصیرة تختلف عن الملاحم الإِفرنجیة الطویلة, وانطلق من هذه المقارنة للتوصل إِلى أحكام شاملة تتعلق بالشعر الجاهلی والشعر الیونانی القدیم, وحكم لصالح الشعر الجاهلی, وأشار بعد ذلك إِلى التشابه بین عبقریة ابن الرومی[ر] وعبقریة هومیروس[ر]. وكذلك كتب البستانی مقالاً حوى شیئاً من تاریخ الشعر عند العرب والإِفرنج. وهكذا یكون البستانی صاحب سبق لا ینكر فی مجال الدراسة المقارنة, وإِن كانت مقارناته تدل على أن ثقافته الأصلیة كانت عربیة تقلیدیة وأن ما قرأه من أفكار أدبیة غربیة لیس أكثر من نوافذ صغیرة للمقارنة.

    وعند منعطف القرن التاسع عشر, على أیة حال, ساد مناخ عام للمقارنة, أسهم فیه الشاعر أحمد شوقی[ر], وكتاب مثل خلیل ثابت وأسعد داغر ونقولا فیاض[ر] ویعقوب صروف[ر], وحملت مجلة «المقتطف» آنذاك رسالة الوعی المتفتح.

    وإِذا ترك الدارس الأشخاص وانتقل إِلى الأعمال المفردة فإِنه یجد أن الكتاب العربی الأول المكرس للأدب المقارن التطبیقی هو كتاب «تاریخ علم الأدب عند الإِفرنج والعرب وفكتور هوغو» للكاتب المقدسی روحی بن یاسین الخالدی. وقد نُشر الكتاب مقالات متسلسلة فی مجلة «الهلال» بین سنتی 1902ـ1903,ثم طبعته دار الهلال سنة 1904 وطبع ثانیة سنة 1912, وأعید طبعه سنة 1985.

    وهذا الكتاب مؤلف نوعی فی الأدب المقارن التطبیقی لا تنقصه سوى التسمیة المقارنیة, وتتصدره على الغلاف الفقرة المقارنیة التالیة:

    «وهو یشتمل على مقدمات تاریخیة واجتماعیة فی علم الأدب عند الإِفرنج وما یقابله من ذلك عند العرب إِبان تمدنهم إِلى عصورهم الوسطى, وما اقتبسه الإِفرنج عنهم من الأدب والشعر فی نهضتهم الأخیرة وخصوصاً على ید فكتور هوغو. ویلحق بذلك ترجمة هذا الشاعر الفیلسوف ووصف مناقبه ومواهبه ومؤلفاته ومنظوماته وغیر ذلك».

    وكتب الخالدی مقدمة للكتاب بالفرنسیة تنبئ عن حسه المقارنی. وأورد فی كتابه مقارنات ومقابلات ودراسات للتبادلات الأدبیة بین العرب والفرنجة, وترجمات وتعلیقات, تدل كلها على أنه كان شدید الالتصاق بالمنهج المقارنی.

    وتوالى بعد الخالدی الاهتمام بالدراسات التطبیقیة ذات الطابع المقارنی, ومن أقدمها سلسلة مقالات نشرها فخری أبو السعود على صفحات «الرسالة» فی الأعوام 1935-1937 وقابل فیها بین الأدب العربی والأدب الإِنكلیزی من دون اعتناء بناحیة التأثر والتبادل. وفی عام 1935 كذلك ظهر الجزء الثالث من كتاب الأدیب الحلبی قسطاكی الحمصی[ر] المعنون «منهل الورّاد فی علم الانتقاد» وتضمن بحثاً مطولاً عن «الموازنة بین الكومیدیة الإِلهیة ورسالة الغفران», وفی الثلاثینات أیضاً نشر عبد الوهاب عزام دراسات فی مجلة «الرسالة» حول العلاقات بین الأدب العربی والأدب الفارسی. وفی الأربعینات ظهر كتاب لإِلیاس أبو شبكة بعنوان «روابط الفكر بین العرب والفرنجة» ظهرت الطبعة الثانیة من الكتاب عن دار المكشوف فی بیروت عام 1945, وهو ذو موضوع مقارنی واضح. وبالتدریج انتعش هذا النوع من الدراسات واغتنى وتعددت وجهاته.

    ومن الملاحظ أن اسم فخری أبو السعود ورد آنفاً فی باب الدراسات التطبیقیة خلافاً لما درجت علیه المصادر العربیة حتى الآن من نسبة الریادة النظریة إِلیه. ویبدو أن فخری أبو السعود لم یستخدم مصطلح الأدب المقارن ولم یكشف عن معرفة به, على الرغم من سبقه فی مجال الدراسة التقابلیة أی غیر القائمة على التأثر والتأثیر, وأن مصطلح الأدب المقارن ظهر فی «الرسالة» أول ما ظهر على ید الكاتب الشامی خلیل هنداوی فی سلسلة مقالات تلقی ضوءاً جدیداً على ناحیة من الأدب العربی هو, اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما یسمیه الفرنجة Littérature Comparée, فی كتاب «تلخیص كتاب أرسطو فی الشعر» لفیلسوف العرب الأول ابن رشد. وقد ظهر هذا العنوان فی «الرسالة» (الأعداد من 154-156 من المجلة) بتاریخ 8/6/1936, وتكرر فی أعداد ثلاثة تالیة. وحملت المقالة الأولى مقدمة نظریة عن الأدب المقارن ومنهجه ومزایاه تُعد الأولى من نوعها فی الأدب العربی.

    والجدیر بالذكر أن مقرر الأدب المقارن ظهر أولاً فی أدبیات دار العلوم بالقاهرة سنة 1938, ولكن المصطلح اختفى بعد ذلك لیظهر فی أواخر الأربعینات فی سلسلة من الكتب الجامعیة تعاقبت بمعدل كتاب كل سنتین تقریباً, وصدر أولها سنة 1948 فی القاهرة بعنوان «من الأدب المقارن» لنجیب العقیقی, تضمّن شذرات من الأدب العام والنقد النظری غیر ذات صلة مباشرة بالعنوان. وفی عام 1949 ظهر كتاب عبد الرزاق حمیدة «فی الأدب المقارن» كما ظهر عام 1951 كتاب مقارنی لإِبراهیم سلامة. وكان أهم تطور تألیفی فی الموضوع ظهور كتاب الدكتور محمد غنیمی هلال بعنوان «الأدب المقارن» فی القاهرة عام 1953. ویُعد هلال بحق مؤسس الأدب العربی المقارن, وكان كتابه أول محاولة عربیة ذات وزن أكادیمی فی منهجیة الأدب المقارن, وبدا شدید التمسك بمبادئ المدرسة الفرنسیة التقلیدیة. وفیما بعد طبع الكتاب عدة طبعات وخرّج جیلاًَ كاملاً من المهتمین بالأدب المقارن.

    وبعد الخمسینات تطور تدریس الأدب المقارن فی الجامعات العربیة بخطوات غیر حثیثة. وألفت كتب جامعیة متفرقة اعتمدت كثیراً على كتاب غنیمی هلال. ولكن بدأت تبرز فی الثمانینات اتجاهات جدیدة على ید الجیل التالی, مؤذنة بحلول مرحلة نهوض جدیدة أكثر وعیاً للتطورات العالمیة الحیة.

    ومن أهم تطورات الأدب المقارن العربی قیام «الرابطة العربیة للأدب المقارن» التی عقدت الملتقى التحضیری فی جامعة عنابة بالجزائر عام 1983, والملتقى الأول فی عنابة أیضاً عام 1984, ثم المؤتمر الثانی فی جامعة دمشق 1986, والثالث فی مراكش 1989. ویشیر وضع الثقافة العربیة المعاصرة إِلى أن الأدب المقارن یبشر بمستقبل ذی شأن فی رحاب الجامعات العربیة وخارجها .

حسام الخطیب , الأدب المقارن (2,1) , (دمشق 1981ـ1982).

ـ م.ف. غویار, الأدب المقارن , ترجمة محمد غلاب (سلسلة الألف كتاب, القاهرة 1956).

ـ بول فان تییغم، الأدب المقارن (القاهرة 1948).

ـ محمد غنیمی هلال , الأدب المقارن (القاهرة 1953).






نظرات:



متن امنیتی

گزارش تخلف
بعدی