ديك الجن الحمصي

دیك الجنّ الحمصی
 - عَبْد السَّلام بنْ رَغبان

161 235ه

قراءة جدیدة فی شعره

عبد الإله النبهان

لیْس أصعب من الكلام فی موضوع تعاورته الأقلام وكثرت حوله الدراسات ومصادره واحدة وأخباره متحدة مع شح وقلة وغموض واضطراب، فاسمحوا لی أن أتجاوز حدود البحث التقلیدی المنسق إلى الاسترسال مع الخواطر والأخذ بأطراف الأحادیث، وأرجو أن یكون لكلامی شیء من حسن الواقع فی موضوع كتبه غیری من الباحثین على نحو آخر مغایر.

فی حمص یحبون دیك الجن، وبعضهم یفخر به، ولا فخر، ویعتز ولا اعتزاز. ولعله من الخیر لنا ولدیك الجن أن نراه من بعید... أن نتوهمه... نجماً لامعاً لا نعرف عن حقیقته شیئاً، أو نعرفه مقصفاً خالداً على ضفاف المیماس یفیض متعة ونشوة وحبوراً على توالی الأیام والأحقاب، إن التمتع بالجمیل وتملی الحسن والجمال فی الكائن یتم لنا من غیر تشریح، وماذا یبقى من الحسناء إن أعمل الجراحون مشارطهم فی كل بقعة منها؟ فلیبق دیك الجن دیوان شعر ولكن من غیر دراسة، وشاعراً ولكن من غیر تحلیل، وأسطورة زاهیة من غیر تاریخ... وإلیكم أفكاراً وخواطر لا بحثاً ومراجع فی صمیم دیك الجن وصمیم شعره... أوحتها أشعاره قبل أن توحی بها أقلام دارسیه.

ولعل فقر حمص القدیمة وخواءها من الأدب والأدباء جعل الأنظار تتجه دائماً فی كل مناسبة أو دراسة إلى دیك الجن الذی یعد أهم شاعر نبغ فی هذه المدینة فی تلك العصور، كانت حمص لا شأن لها أیام الدولة العباسیة(1)، وتكاد لا تذكر، باستثناء ذكرها فی عدد من الثورات، ویبدو أن تحول مراكز التجارة والثروة جعل منها ومن غیرها من مدن بلاد الشام آنئذٍ مدناً ثانویة، لذلك كان الشعراء النوابغ والرجال الطامحون یغادرونها إلى المدن المزدهرة فی العراق.

دیك الجن عبد السلام بن رغبان، كتبت عنه دراسات ومحاضرات وخاصة على أقلام أدباء حمص كتب عنه الأستاذ عبد العلیم صافی والأستاذ عبد المعین الملوحی والمرحوم محی الدین الدرویش، والأستاذ مظهر الحجی وضع كتاباً كبیراً عنه ولما ینشر بعد، وكتب غیرهم ممن ستطالع أسماءهم فی الملحق بهذه الدراسة، وآخر من كتب عن دیك الجن فیما أعلم الأستاذ أحمد الجندی، كتب عنه دراسة فی كتابه شعراء من بلاد الشام.

وكل ما كتب عنه حتى الآن مكرر، لأن شعره الذی بین أیدینا قلیل محدود، و المصدر الأساسی للحدیث عنه كتاب الأغانی. وقد وردت نصوص تدل على أن شعره كان مجموعاً حتى القرن السادس: ذكر الیافعی فی مرآة الجنان أن لابن الأثیر صاحب المثل السائر مجموعاً فیه شعر أبی تمام والبحتری ودیك الجن والمتنبی فی مجلد واحد كبیر(2)، وتدل كتب الاختیارات التی وصلتنا ككتاب الأنوار فی محاسن الأشعار (3)، وكتاب نهایة الارب أن دیوانه كان بین أیدیهم، كما تدل على ذلك كتب النقد وخاصة تلك التی أكثرت الاستشهاد بشعره لمقارنته بشعر غیره كالمنصف لابن وكیع (4)... ومع ذلك فإن شعره لم یعثر علیه كاملاً حتى الآن، وكل كتاب من كتب الأدب التراثیة یصدر حدیثاً قد یقدم لنا أبیاتاً لدیك الجن كانت غیر معروفة، وكل هذا یدل على أن دیوانه كان موجوداً وعلى أن الأدباء والنقاد قد اهتموا بشعره على نحو ما منذ القدیم.

لقد قالوا ما قالوه فی لقبه (دیك الجن)، لماذا لقب بهذا اللقب؟ أوردوا قصصاً لن تجد فیها مقنعاً ولا لها دلیلاً، قالوا: إن "دیك الجن"، اسم دویبة فی البساتین. وقد قلبت كتب الحیوان قدیمها وحدیثها وسألت أهل البساتین فی حمص إن كان فی إرثهم اللغوی اسم هذه الدویبة فلم أحظَّ بطائل. وقد أشرت إلى أن كتب التراث الصادرة حدیثاً لا تنی تقدم جدیداً فیما یتعلق بدیك الجن وبغیره. وهكذا كان عندما ظهر كتاب "سرور النفس بمدارك الحواس الخمس"(5). الأصل للتیفاشی والمختصر لابن منظور فقد ذكر دیك الجن وقال إنه لقب بذلك لأنه دعی إلى ولیمة قدم فیها دیك، فرثى الشاعر هذا الدیك فلقب بذلك، ولكن القصة وسأذكرها أن أفادت سبب تلقیبه بالدیك إلا أنها لا تقدم تسویغاً ولا دلیلاً یتعلق بإضافة الجن إلى الدیك. وإلیك القصة:(6).

وقال عبد السلام بن رغبان دیك الجن یرثی دیكاً لأبی عمرو وعمیر بن جعفر كان له عنده مدة فذبحه وعمل علیه دعوة، وبها لقب دیك الجن:

دعانا أبو عمرو عمیر بن عامر *** على لحم دیك دعوة بعد موعد

فقدم دیكاً عدملیاً ملدحاً *** مبرنس أثیاب مؤذن مسجد

یحدثنا عن قوم هود وصالح *** وأغرب من لاقاه عمرو بن مرثد

وقال: لقد سبَّحت دهراً مهللاً *** وأسهرت بالتأذین أعین هجَّد

أیذبح بین المسلمین مؤذن *** مقیم على دین النبی محمد

فقلت له: یا دیك، إنك صادق *** وإنك فیما قلت غیر مفنِّد

ولا ذنب للأضیاف إن نالك الردى *** فإن المنایا للدیوك بمرصد(7).

فإذا كانت هذه الأبیات وأضیف إلیها ما هجا به نفسه وقال أنه على صورة الجنی، استقام لنا تصور ما عن سبب تلقیبه، وإلیك قوله فی نفسه:

أیها السائل عنی *** لست بی أخبر منی

أنا إنسان برانی الله *** فی صورة جنی

بل أنا الأسمج فی العین *** فدع عنك التظنی

أنا لا أسلم من نفسی *** فمن یسلم منی(8).

وینضاف إلى ذلك إلى رثائه للدیك وهجائه لنفسه خروجه فی اللیالی وسكره بین البساتین، ورفع عقیرته بالغناء ومجونه... فربما رشحته هذه الأمور مجتمعة لأن یكون فی نظر أبناء عصره دیكاً من دیوك الجن.

شعره الجمیل، أو قل المتلبس بمسحة من مسحات الجمال، والمشهور... یدور حول حبه لفتاة مسیحیة اسمها (ورد)، وزواجه منها، ثم تلهبه بالغیرة علیها وقتلها، ثم یأتی الندم والرثاء الرقیق... وجمال قصة هذا الحب ونهایته لا یتجلى من سردها على وجه الحقیقة أو ما یقرب منها، ولا فائدة من إقحام المناقشات ذات الطابع الحقوقی فی سیرة شاعر تلبست حیاته بالأسطورة، بل استمدت جمالها وتأثیرها منها، بل إن أسطورة حیاته ربما كانت أدل على طبیعة مزاجه واتجاهات سلوكه والبواعث الدفینة لشعره من كثیر من الحقائق التی یفتش عنها الباحثون عادة. ماذا یفیدنا التحقق من كون زوجه ورد تخونه أو لا تخونه، وإذا كانت تخونه أمع غلامه أم مع شخص آخر... المهم أن مزاج دیك الجن الرجراج. وطبیعته العصبیة كانا مهیأین لارتكاب جریمة قتل، مهما كانت الأسباب والدوافع، كما أنهما مهیأین فی الوقت نفسه للندم والإفراط فیه، وربما من غیر موجب للندم أیضاً.

الذین كتبوا فی سیرته ورصعوها ودونوها بسبك قصصی مشوق جعلوه یحب غلاماً وفتاة فی وقت واحد، فجمعوا بذلك بین جنوح طبیعته إلى الشذوذ وجنوحها إلى الاستواء فی الوقت نفسه، ولكنه استواء یقرب من الشذوذ أو قل إنه متلبس به لا ینفصل عنه، وهو شذوذ یغذوه المجون واللا مبالاة والانحراف، یعضده فی ذلك ویمنحه الاستمراریة سكر دائم تحول إلى إدمان... وإن جملة الأخبار المرویة عنه تؤدی إلى هذا التصور... إلى تصور إنسان عصبی بل مفرط فی عصبیته، مدمن، محصور داخل ذاته، مغرق فی أنانیته، فی تدلیل نفسه وإیثارها بالملذات، وربما كان بعیداً كل البعد عن المشاعر الإنسانیة التی یمكن أن یشارك غیره فیها، أو ینفتح فیها على ذلك الغیر... حتى الندامى من الأصحاب والخلان لا نجدهم فی شعره ولا سیرته... تفكیره أصم مغلق متجه اتجاهاً حدیاً واحداً نحو نفسه ولذاته الحسیة المادیة: نحو الغلام وورد والخمر... ولم تستطع الخمر ولا الحب أن یرقیا به إلى أی مستوى روحی... بل كانا مجرد وسیلة للمتعة التی تساعد على الغرق فی الملذات وعلى الإغراق فی المجون.

إنه مقیم فی مدینة خاملة آنذاك... لم یفكر بالرحلة ولم یوسع آفاقه فی عصر كانت بغداد فیه تعج بالحیاة والازدهار والعلم والشعراء الكبار... وبكل ما تشتمل علیه حیاة فتیة وحضارة ناهضة... بل أقام فی بلده على فقره وحاجته، علل بعضهم ذلك بأنفته من المدیح، ولم یك أنوفاً ولا عزیزاً، إنه مدح بعض الأمراء التافهین جداً بمقاییس ذلك الزمان... إنهم لا یعنون شیئاً إذا قیسوا إلى أمراء بغداد فی ذلك الحین... بل إنهم شبه مسودات عنها... ومدیحه لهم وقبوله لأعطیاتهم أكبر دلیل على أنه كان یكفیه الفتات فی عصر الشعراء الكبار والأعطیات الهائلة والمكافآت الجزیلة.

وقالوا إنه مدحهم لأنه كان یحبهم لأنهم هاشمیون، وكان هو فیما یقال ذا نزعة شیعیة.... ولیس هذا بالتعلیل لأن العباسیین هاشمیون أیضاً، أما كونه ذا نزعة شیعیة فهذا أمر مشكوك فیه ولیس علیه من دلیل إلا مدحه لأولئك الأمراء... فإذا كان دیك الجن قد أخفق فی أن یكون مسلماً عادیاً فكیف یمكن أن یكون شیعیاً، والشیعیة إسلام مع زیادة علیه تتمثل فی الالتفات حول آل علی وحبهم والتشبه بهم و.... الخ، فإذا كان الرجل لا یشعر بأی حب للعرب، بل یصرح بحبه للفرس ویشید بنسبه المختلف فیه، وأصله الذی لا أصل له... وإذا كان یهزأ بمعتقدات المسلمین بما فیهم الشیعة ویعلن تكذیبها فی شعره، وفی سلوكه. فكیف یقال: إن لدیه نزعة شیعیة؟‍‍!...

عللوا ذلك بمراثیه للحسین بن علی و مدحه للهاشمیین، وأرى أن ذلك لیس دلیلاً لسبب بسیط: إن حب الحسین لا یمكن أن یقترن بالزندقة، لأن حب الحسین تشدد دینی إضافی ینبع من حب آل الرسول.... فإذا كان الأصل لدى دیك الجن معدوماً الإسلام وحب العرب فما الحاجة إلى الفراع؟ وتعلیل رثائه للحسین هو أنه كان یتقرب بتلك المراثی إلى أولئك الذین كانوا یقدمون له المال وعندئذٍ یكون السبب اقتصادیاً بحتاً. وقد یكون الرجل من الناقمین على السلطة العباسیة آنذاك وهو شعوبی صارم فلم یجد أمامه سبیلاً للمجاهرة بالعداء إلا رثاء الحسین ومدیح آل علی الذین كانوا قذى فی أجفان العباسیین وشوكة فی جنوبهم، فمدیحه ورثاؤه للإغاظة والاستجداء ولیس حباً ولا مروءة.

حاول أبو العلاء المعری أن یدافع عن عقیدة دیك الجن فی عبارات مقتضبة فحواها أن زندقة دیك الجن ربما كانت لغواً من اللغو، ومن قبل التكثر من الكلام الذی یوحی بالمجون دون أن یدل على الحقیقة المنعقدة فی القلب(9)، ولكننا نجد أبیاته الجمیلة المنسابة التی یعلن فیها عن نفسه وعن عقیدته أصدق دلالة على قلبه من أن تكون مجرد قول عابر:

هی الدنیا وقد نعموا بأخرى *** وتسویف النفوس من السوافی

فإن كذبوا آمنت وإن أصابوا *** فإن المبتلیك هو المعافی

وأصدق ما أبثك أن قلبی *** بتصدیق القیامة غیر صاف(10)

والطریف فی القصة أن تبرئة دیك الجن تكفل بها منام رآه أحدهم: رأى فیه دیك الجن فأخبره أنه كان یتلاعب بذلك ولم یكن یعتقده(11)....

وهذه محاولات باهتة وسخیفة أعنی دفاع المعری وقضیة المنام یدحضها عدد من الحقائق أبسطها: كون الشعر تعبیراً نقیاً عن نفس الشاعر لحظة الإبداع، فدیك الجن كان كما عبر عن نفسه فی أبیاته، على الأقل ساعة قوله هذه الأبیات. ثانیة تلك الحقائق أن دیك الجن لم یكن نسیج وحده فی ذلك الموقف آنذاك، بل إن الشك فی المعتقدات السائدة والأدیان كان منتشراً ومعروفاً، وكانت كتب الزندقة معروفة وشائعة.(12)، فصادفت تلك الدعوات من دیك الجن قلباً متلهفاً لها مشبعاً بحب الفرس والروم، مفعماً بكره العرب.

فتمكنت منه فكان حاله وحالها كما قال الشاعر:

أتانی هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلباً خالیاً فتمكنا(13).

ثم إن دیك الجن عزف على هذا الوتر أكثر من مرة، وسواء أكانت الأبیات التالیه له أو منسوبة له فهی على كلا الوجهین ذات دلالة على أنه كان یلهج بهذا أو عرف عنه هذا اللهج فنسب إلیه ما یشاكله وما یماثله:

أَأَترك لذة الصهباء عمداً *** لما وعدوه من لبن وخمر

حیاة ثم موت ثم بعث *** حدیث خرافة یا أم عمرو(14).

ثالثة تلك الحقائق أن شعوبیة دیك الجن ترشحه لمثل هذا الشك، وأنا هنا لا أرید أن أجعل منه فیلسوفاً متنوراً، وإنما هی بدوات النفس وأفكار العصر وجدت فی نفس دیك الجن وفكره مرتعاً خصیباً وانسجمت مع سلوكه ورقة نسبه وإحساسه بالهوان فی مدینة تتعصب كلها لا للعرب فقط ولكن للیمنیة منهم على وجه الخصوص حتى قیل: أذل من قیسی فی حمص(15)، هذا الهوان الذی ولد فخراً أجوف لا یستند إلى أسس اجتماعیة... فلم یكن أبوه غالب ولا جده صعصعة فبمن یفخر بأبیه رغبان وأهون به أباً، أم بنسبه المنقطع بالولاء وأسقط به نسباً؟‍ لذلك لم یكن أمامه إلا الادعاء، ونموذج الادعاء حی ماثل، فلیس إلا أن یقتبس ویقلد، ویسیر على النهج اللاحب المطروق، فها هو بشار قبله عندما أعیاه الفخر بالآباء والأجداد، وفاته النسب الرفیع یمم وجهه شطر كسرى فجعله عماد فخره وقبلة اعتزازه، ولم یحمل أحد فخر بشار على محمل الجد، بل كان فخره بلیغاً فی دلالته على عقد النقص المستحكمة، وكما سمى بشار الفرس بنی الأحرار، وجعل نفسه ابنهم وسلیلهم كذلك فعل دیك الجن فجعل نفسه حراً لیس بالعربی، واستمع إلى بشار:

هل من رسول مخبر *** عنِّی جمیع العربِ

من كان حیاً منهم *** ومن ثوى فی الترب

بأننی ذو حسب *** عال على ذی الحسب

جدی الذی أسمو به *** كسرى وساسان أبی

وقیصر خالی إذا *** عددت یوماً نسبی

كم لی و كم لی من أب *** بتاجه متعصب

أنا ابن فرعی فارس *** عنها المحامی العصب

نحن ذوو التیجان وال *** ملك الأشم الأغلب(16).

وقارن ما قاله بشار بما قاله دیك الجن فإنك ستجده أی دیك الجن یسیر وراءه خطوة خطوة وعلى نهجه تماماً، حذوك القذة بالقذّة(17)، والنعل بالنعل(18)، وإذا كان بشار شیخاً من شیوخ الشعوبیة العتاد فدیك الجن تلمیذ شدید الإخلاص لمذهب شیخه:

إنی ببابك لاودی یقربنی *** ولا أبی شافع عندی ولا نسبی

إن كان عرفك مذخوراً لذی سبب *** فاضمم یدیك على حر أخی سبب

أو كنت وافقته یوماً على نسب *** فاضمم یدیك فإنی لست بالعربی

إنی امرؤٌ بازل فی ذروتی شرف *** لقیصر ولكسرى محتدی وأبی(19).

فهما فی زعمهما مشتركان فی نسب واحد عجیب، جمع بین الولاء لدولتین لم تتفقا یوماً فی تاریخهما، ولم تهدأ حروبهما، ولم تتهادنا إلا على دخن، ومع ذلك فقد جمع بینهما ووحد شملهما كراهیة بشار للعرب ثم كراهیة دیك الجن من بعده للعرب حتى جعل ولاءه ونسبه فی الدولتین اللتین لم یشبع العرب من الاعتزاز بإسقاطهما حتى یومنا هذا، فكأنه یجعل من نفسه رمزاً للتحدی وللبقاء والاستمرار... فلنصوّر الآن هذا الإنسان الذی یرثی الحسین بن علی سید العرب، ویتباكى علیه، ثم یصرح بصفاقة ما بعدها صفاقة وبرقاعة عجیبة بقوله: فإنی لست بالعربی... ولم یخسر العرب شیئاً ما بخروج دیك منهم، كما أن الفرس أو الروم لم یربحوا شیئاً ذا بال بانتسابه إلیهم.

والحق أن بشار أیضاً لم یكن مخترعاً أو مبتدئاً أو مجدداً بهذا الفخر بالفرس، إذ لاشك أنه أی الفخر بالفرس كان ظاهرة اجتماعیة عبر عنها بشار كما عبر عنها من قبله فی أیام هشام بن عبد الملك إسماعیل بن یسار فی قصیدتین على الأقل مما وصلنا من شعره مما رواه أبو الفرج، بل إن إسماعیل صرح بذلك أمام هشام بن عبد الملك:

إنی وجدِّك ما عودی بذی خور *** عند الحفاظ ولا حوضی بمهدوم

أصلی كریم ومجدی لا یقاس به *** ولی لسان كحد السیف مسموم

أحمی به مجد أقوام ذوو حسب *** من كل قرم بتاج الملك معموم

جحاجح سادة بلج مرزابة *** جرد عتاق مسامیح مطاعیم

من مثل كسرى وسابور الجنود معاً *** والهرمزان لفخر أو لتعظیم

أسد الكتائب یوم الروع إن زحفوا *** وهم أذلوا ملوك الترك والروم

یمشون فی حلق الماذی سابغة *** مشی الضراغمة الأسد اللهامیم

هناك إن تسألی تنبی بأن لنا *** جرثومة قهرت عزّ الجراثیم(20).

وقد غضب هشام علیه أیما غضب وأمر به فغط فی بركة ماء حتى كادت نفسه تخرج ثم أخرج ونفی... قال أبو الفرج: وكان مبتلى بالعصبیة للعجم والفخر بهم، فكان لا یزال مضروباً محروماً مطروداً (21)، وإذا كان فی الأبیات السابقة قد اقتصر على الفخر فإنه فی أبیات أخرى افتخر بالفرس ونال من العرب:

رب خال متوج لی وعم *** ماجد مجتدى كریم النصاب

إنما سمی الفوارس بالفر *** س مضاهاة رفعة الأنساب

فاتركی الفخر یا أُمام علینا *** واتركی الجور وانطقی بالصواب

واسألی إن جهلت عنا وعنكم *** كیف كنا فی سالف الأحقاب

إذ نربی بناتنا وتدس *** ون سفاهاً بناتكم فی التراب(22).

وقد استطردت قلیلاً حول فكرة قدم فخر شعراء الشعوبیة بالفرس وتصریحهم بذلك لتصحیح الفكرة التی ذكرها أحد الذین كتبوا عن دیك الجن وقد أعیاه البحث عن سبق یسجله للشاعر فجعل من هذا التصریح بشتم العرب سبقاً (23)، وكفى دیك الجن مفخرة بذلك.

فدیك الجن إذن بعد كل ما ذكرناه یبدو سائراً على طریق لاحبة عبدها له بشار وذللها ابن یسار، وغذاها حقد قدیم قدم القادسیة غذته على مر العصور والأحقاب، عناصر الصراع الاجتماعی المتنامیة، وشجعه روح الانفتاح الفكری الذی ساد ربوع الدولة آنذاك، والتسامح الذی نظرت من خلاله السلطة إلى مثل هذه النزاعات، زد على ذلك طموحات الفرس بعد أن أصبحت الوزارة حكراً علیهم فی الخلافة العباسیة لمدة مدیدة.

فإذا ما تركنا هذین المحورین اللذین شكلا دعامة هذا الشاعر وهما الشعوبیة والزندقة لننتقل إلى شعره الآخر أو إلى ما برع فیه من هذا الفن أو بالأحرى ما نسب إلى البراعة فیه فماذا تجد؟...

هنا، یجب أن نذكر على سبیل التذكیر أن دیك الجن توفی عام ستة وثلاثین ومائتین أی بعد أبی تمام، كما أنه كان معاصراً لأبی نواس وتوفی بعده، (24)، نذكر هذا لأن فنه الشعری یجب أن یقاس بالنماذج العلیا التی كان الفن الشعری قد بلغها آنذاك على أیدی سدنته الكبار فأین یقع فن دیك الجن قیاساً إلى نمو فن الشعر فی عصره؟...

إذا أخذنا بعین الاعتبار الحادثة الأساسیة فی حیاة دیك الجن والتی فجرت منابع الحزن والندم فی نفسه وهی قتله ل(ورد) فإننا نتوقع أن نجد شعراً حاراً مفعماً بالعواطف متسربلاً بالأحزان متشحاً بالزرقة، بالإضافة إلى صنعة شعریة حاذقة نسب إلیها، أو نسبت إلیه وصنف من أجلها فی المدرسة الشامیة(25)، كما یحلو لبعضهم أن یسمیها، فماذا نجد فی الشعر الذی كان صدى وثمرة لهذه الحادثة؟...

لن نجد فیما وصلنا من شعره قصیدة طویلة حول هذه الحادثة، وإنما هی مقطوعات ونفثات تطول وتقصر، ویمكن أن نمر ببعضها محاولین تقییم شاعریته اعتماداً على نصوصه، ولنأخذ أول مقطوعة تصادفنا فیما سمی بدیوانه:

لیتنی لم أكن لعطفك نلت *** وإلى ذلك الوصال وصلت

فالذی منی اشتملت علیه *** ألعارٍ ما قد علیه اشتملت

قال ذو الجهل: قد حلمت ولا *** أعلم أنی حلمت حتى جهلت

لائم لی بجهله ولماذا *** أنا وحدی أحببت ثم قتلت

سوف آسى طول الحیاة وأبكیك *** على ما فعلت لا ما فعلت(26).

ما أحوج هذا النص فی نظری إلى القول الشارح كما یقول المناطقة! وما أبعده عن عواطف الشعر! وما أشبهه بمعادلات المنطق العقلیة! وما أبعده عن روائع الصنعة وتجلیاتها وتداخل ألوانها وعمق ما اشتملت علیه لدى أبی تمام!...

إن عصبیة دیك الجن ومزاجه وطبیعة حیاته... هذه كلها أمور حریة أن تجعل شعره سمحاً متدفقاً ولاسیما والبواعث قویة ذاتیة، فما بالنا نصطدم بمثل النص السابق وكأنه قطع البازلت التی تملأ ربوع حمص بل ولنأخذ نصاً آخر مناسبته أن ورد زارته فی المنام بعد مقتلها فقال:

جاءت تزور فراشی بعدما قبرت *** فظلت ألثم نحراً زانه الجید

وقلت: قرة عینی قد بعثت لنا *** فكیف ذا وطریق القبر مسدود

قالت: هناك عظامی فیه مودعة *** تعیث فیها بنات الأرض والدود

وهذه الروح قد جاءتك زائرة *** هذی زیارة من فی القبر ملحود(27).

تأمل هذه العواطف المسطحة الخالیة من أی عمق یقابل بها طیف ورد، وانظر إلى تلك الخرقة البالیة التی رقع بها بیته الأخیر والتی تدل على ضیق عطنه بالتعبیر عن عواطفه وعلى سیطرة العقل لدیه سیطرة جافة على عملیة الشعر والإبداع... والنصَّان المتقدمان یخلوان من أی صورة تذكر بله الصورة الجمیلة المؤثرة.

على أن شعره لا یخلو من بعض مقطوعات تشی برقة العاطفة التی تظهر على استحیاء من خلال طبیعة یبدو أنها صلبة جافة متوحشة، لكن هذه المقطوعات لا تضعه إلى جانب الشعراء الكبار:

أشفقت أن یرد الزمان بغدره *** أو أبتلی بعد الوصال بهجره

قمر أنا استخرجته من دجنه *** لبلیتی وجلوته من خدره

فقتلته وله علی كرامة *** ملء الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدی به میتاً كأحسن نائم *** والحزن یسفح عبرتی فی نحره

لو كان یدری المیت ماذا بعده *** بالحی حلَّ بكى له فی قبره

غصص تكاد تفیض منها نفسه *** وتكاد تخرج قلبه من صدره(28).

فلعل التأثیر العمیق الذی خلفته الحادثة فی نفسه كان أحیاناً ینفذ قاداً تلك الطبیعة الصلدة التی اتسم بها دیك الجن، مظهراً صورة الإنسان الذی ما عرف إلا مستكناً فی أردیة الصنعة وقد عریت من تلك الألبسة لتعبر عن حزنها بعفویة بعیدة نسبیاً عن قضایا المنطق، وبعیدة أیضاً عن محاولة اختراع الفكرة الجدیدة والتعبیر عنها كیفما اتفق وبعفویة محببة:

بأبی نبذتك بالعراء المقفر *** وسترت وجهك بالتراب الأعفر

بأبی بذلتك بعد صونك للبلى *** ورجعت عنك صبرت أم لم أصبر

لو كنت أقدر أن أرى أثر البلى *** لتركت وجهك ضاحیاً لم یقبر(29).

وفی مثل هذه المقطوعات وهی قلیلة فیما وصل إلینا من شعره یظهر الطبع الشعری لدى دیك الجن، وفیما عداها فالتكلف واضح. وقد علل أحد الدارسین المحدثین اضطراب استعمال دیك الجن للألفاظ وتعقید أسلوبه باضطراب أعصابه ومداومته على السكر، ثم عدم تنقیحه لقصائده (30)، ولا أظن هذه أسباباً مقنعة لأن شعر شعراء كثیرین غیر دیك الجن كان یجب أن یتسم بما اتسم به شعر دیك الجن لاتحاد السبب، فالأمر لا یعود لا إلى سكره، ولا إلى أعصابه، بل یعود فیما أقدر إلى أن طبیعة دیك الجن كانت غیر سمحة بالشعر، شحیحة به إلا فی أویقات ومقیطعات، وكان إذا هم بالشعر غالباً ما ینقلب إلى ناظم لفكرة یحاول ابتكارها أو صیاغتها من جدید فی بضعة أبیات على الأقل، فأنت حینئذٍ معه فی مقلع من مقالع الحجارة أو فی ساعة تدریب على نظم الأفكار فی أوزان، ورصف التشبیهات دون أن تحس وراءها بشیء... خذ هذه الأبیات مثلاً:

والخال فی الخد إذ أشبهه *** وردة مسك على ثرى تبر

وحاجب منك خطه قلم الحس *** ن بحجر البهاء لا الحبر

ما أصبر الشوق بی فأصبرنا *** من حسنت فیه قلة الصبر(31).

فمن ناحیة فنیة نرى أن عناصر الصور فی هذه الأبیات كلها معروفة ومعادة ومكررة، لم یأتِ بها دیك الجن فی صیاغة عاطفیة حمیمة تشعرك بأن فی نفسه شیئاً ما، وإنما هو النظم المحكم الجاف، وموضوعه لا یحتمل الجفاف، إنه الغزل والنسیب الذی یؤدی فیه التصویر الفنی وظیفة رفیعة وهی مساعدة اللغة لتعبر عن عواطف ومشاعر لا یمكن التعبیر عنها على نحو مباشر، وقد لا تنهض اللغة وحدها مجردة عن التصویر بعبء ذلك، وهنا دیك الجن فی تلك الأبیات لم یكتفِ بأن أتى بالصور القدیمة بل خلع علیها من جموده وبرودته، فأتت وكأنها المجسمات الاصطناعیة لیس لها إلا المنظر الخارجی. فإذا خطر له أن یصور انفعاله كما سیفعل فی هذه الأبیات التالیة فإنك لن تجد سوى ردود الفعل المتهافتة لدى هذا الشاعر:

لما نظرت إلی عن حدق المها *** وبسمت عن متفتح النوار

وعقدت بین قضیب بان أهیف *** وكثیب رمل عقدة الزنار

عفرت خدی فی الثرى لك طائعاً *** وعزمت فیك على دخول النار(32).

أظن أنه كان یكفیها منه أن یحبها، أما تعفیر خده دلیلاً على الطاعة والخضوع فهو من الأحادیث الرائجة على ألسن الظرفاء آنئذٍ(33)، ولكن ما علاقة حبها بدخوله النار هذا الدخول الفج، ولماذا لا یكون حبها هو الجنة له... أن الرابط جد ضعیف معنویاً بین صیغة الشرط وما ارتبط بها من جواب، وهذا عائد إما إلى شح عواطفه فلم یكن عنده ما یقوله سوى تردید العبارات التی أبلاها التكرار وأخلقت جدتها الأیام، وأما أنه كان ضیق العطن، ضیق الصدر، یبدأ ثم لا یعرف كیف ینتهی، وكأن ممارسته للشعر تكبت ماكان یعتلج فی نفسه، وتدفع به إلى الاجترار... وإذا أخذنا إحدى الصور التی أعجب بها بعضهم وقال عنها إنها جمیلة وتأملناها، وقارناها بغیرها مما قیل قبلها فإننا نجد أیضاً تخلفاً عن الشعراء الآخرین، وهذه الصورة وردت فی خمریاته، وقد قال الشاعر فی الخمر ما قال، وتعد الأبیات التالیة من أجود ما قاله فی الخمر:

بها غیر معذول فداو خمارها *** وصل بعشیات الغبوق ابتكارها

ونل من عظیم الردف كل عظیمة *** إذا ذكرت خاف الحفیظان نارها

وقم أنت فاحثث كأسها غیر صاغر *** ولا تسق إلا خمرها وعقارها

فقام تكاد الكأس تحرق كفه *** من الشمس أو من وجنتیه استعارها

ظللنا بأیدینا نتعتع روحها *** فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها

موردة من كف ظبی كأنما *** تناولها من خده فأدارها(34).

إذا تأملنا البیت قبل الأخیر وهو من الأبیات المحسوبة لدیك الجن، وقارناها بالبیت الذی یقابله من المقطوعة التالیة التی نسبت فی بعض المصادر للمأمون، فإن الفرق سیغدو واضحاً فی طریقة التعبیر عن المعنى الواحد.

وصاحب وندیم ذی محافظة *** سبط الیدین بشرب الراح مفتون

نادمته ورواق اللیل منخرق *** تحت الصباح، دفیناً فی الریاحین

فقلت: خذ، قال: كفی لا تطاوعنی *** فقلت: قم، قال: رجلی لا تواتینی.

إنی غفلت عن الساقی فصیرنی *** كما ترانی سلیب العقل والدین(35).

فقارن بین قوله: ظللنا بأیدینا.... الخ...... وقول الآخر: فقلت: خذ.....الخ....، إنه الفرق بین مباشرة المعنى، ونظمه كما ینظم الشعر التعلیمی، وبین تأدیته على نحو غیر مباشر، یوحی بها إیحاءً ویومأ إلیه إیماء.

وأمر آخر یتعلق بهذه المقطوعة، وهو الخبر الذی نسب إلى أبی نواس قوله لدیك الجن: إنك فتنت أهل العراق بقولك:

موردة من كفِّ ظبی كأنما *** تناولها من خده فأدارها(36).

ولا أحسب أبا نواس إذا صح الخبر إلا مجاملاً لدیك الجن، لأن شعراء العراق ومن وافاهم آنذاك وعلى رأسهم أبو نواس لم یدعوا معنى طریفاً ولا صورة رائعة یمكن أن تخطر ببردها فی أیامهم إلا ألحوا علیها، وبلغ أبو نواس من البراعة فی ذلك مبلغاً عجیباً یخلف دیك الجن وعشرات مثل دیك الجن فی غباره، ففی خمریاته تختلط الأضواء وتتماوج الصور، ویغیب العقل ویثوب، وتصور أدق الحركات والانفعالات، بینما كانت الخمر عند دیك الجن مجرد تبرٍ قد عجن بماء لجین، أو هی زلال، أو هی مسك وعنبر، ولا تقع له على بیت واحد یسامق فیه أبا نواس وإلیك هذه الصور من شعر أبی نواس من غیر تدقیق فی الاختیار:

وصفراء قبل المزج بیضاء بعده *** كأن شعاع الشمس یلقاك دونها

ترى العین تستعفیك من لمعانها *** وتحسر حتى ما تقل جفونها

كأن یواقیتاً عواكف حولها *** وزرق سنانیرٍ تدیر عیونها(37).

أو هذه الصور:

إذا عب فیها شارب القوم خلته *** یقبِّل فی داج من اللیل كوكبا

ترى حیثما كانت من البیت مشرقاً *** ومالم نكن فیه من البیت مغربا(38).

إن ما أتصوره وأظنه أن دیك الجن لم یفتن أهل العراق بقوله، وإنما فتن أبا نواس بظبیه وهما أصحاب بلیة واحدة فمد هذا له شباكه وهو الخبیر، وجامله من حیث حسنت المجاملة، وتلقف الناس بعدهما هذا الخبر أو قل: تلك المجاملة، وذكروها على أنها اعتراف عظیم من أبی نواس بشاعریة دیك الجن، والشاعریة تفرض نفسها ولا یفرضها اعتراف... ومن هذا المنطلق لمع أبو نواس وخبا دیك الجن، لمع الأول لموهبته الفذة، وخبا الثانی لأن موهبته لم تكن متألقة وهاجة، فبعض المقطوعات الجمیلة التی قالها لا ترتفع به إلى مصاف الشعراء الكبار، ولم یكن منهم فی أی فن من فنون الشعر، لقد مدح فیما تعلق بأذیال أبی تمام، وتغزل، وبواعث حبه قویة فما أجاد، وكانت فی حیاته مأساة عمیقة قاتمة جدیرة أن توحی له بعقائل القصائد، ولكن كانت الحصیلة مقطوعات باهتة بالقیاس إلى هول المأساة، وقال فی الخمر ولیته ما قال، فالخمرة التی كانت تغدو رمزاً للروح والحیاة عند معاصریه، أو عند بعضهم بقیت لدیه مجرد شراب كالمسك والعنبر(39).

لقد عاش دیك الجن فی عصر جرت فیه أحداث كبرى جسام... حرب الأخوین: انتصار المعتصم فی عموریة... مروراً بعصر المأمون... وهذه الأحداث كلها لا تجد لها أی صدى فی شعره بینما تجد صدى حادثة فی منتهى التفاهة والسفاهة والخسة وهی قصة الاعتداء على أحد الغلمان فی عاصی المیماس (40)، وكان مهتماً جداً بذلك...."إن الله یحب معالی الأمور ویكره سفاسفها(41).. وكان دیك الجن متعلقاً بهذه السفاسف... مقصراً تجاه فنه وشعره ونفسه، فلا عجب بعد ذلك كله أن أهمل وذكر على الهامش، ولولا جمال الأسطورة التی جعلت تاریخاً له.. وهی قتله ل(ورد) ولغلامه ثم إحراقهما وشرب الخمر من كوزین صنعا من رماد عظامهما... وهذه قصة تلهب الخیال(42)... لما بقی من دیك الجن شیء جمیل یذكر...

لقد كان فی عصره شاعراً من شعراء السفح، أدنى السفح، لم یقترب من القمة ولم یسع إلیها، ولم یسامت أحداً من أصحاب القمم فی أی فن من فنون الشعر، لقد كان خلیقاً أن ینوح على ورد بشعر لم یقل أحد قبله مثله، ولكننا لم نجد شیئاً من ذلك، إنه یسیر فی الدروب المطروقة المذللة، وإذا حاول التجدید أتى بالویلات وقذف بنا فی مقالع الحجارة أو قل: قذفنا بالحجارة....

شیء واحد رائع وجمیل فی سیرة دیك الجن، هو أنه كان أستاذاً لأبی تمام، وربما أفاده بعض الإفادة (43)..؟ ولكن رب تلمیذ فاق أستاذه، وهكذا كان شأن أبی تمام الذی تجاوز دیك الجن وخلفه فی غباره... وتحولت شعوبیة دیك الجن الداكنة إلى عروبة ناصعة فی شعر أبی تمام.. ولعل قصة التلمذة هذه كلها ملفقة أو مموهة... وربما كان اللقاء بینهما لقاء شاعرین لا لقاء أستاذ شاعر وشاعر ناشئ... ومهما یكن من أمر فإن الطریقة الشعریة التی یسمونها المذهب الشامی قد أخذت أبعادها على ید أبی تمام وفی شعره، وتجاوز بها كل التكلف الذی ظهر فی شعر دیك الجن، وحولها من الجمود الصلب إلى الحركة الحیة(44).

قبل أن أختتم هذه الأسطورة لابد من أن أشیر إلى أن الأستاذین الكبیرین عبد المعین الملوحی والمرحوم محی الدین الدرویش قد ذهبا فی تقدیمهما لما جمعاه من شعر دیك الجن إلى أن هذا الشاعر ظلم ولم یعط حقه(45). وإلى أنه كبیر... وما إلى ذلك... وأنا أخشى أنهما كانا یكتبان ما یكتبان تحت وطأة حبهما للشاعر لمجرد كونه حمصیاً أو عاش فی حمص.. إن دیك الجن لم یظلم فقد كتب عنه أبو الفرج الأصفهانی وحسبك بالأغانی شهرة وإشهاراً، وكتبت عنه كتب الأدب المختلفة، ووضع حیث یحسن أن یوضع... فأین الظلم وأین سوء الحظ... لعل الأستاذین كانا یریدان لدیك الجن شهرة ومكانة تماثلان ما كان لأبی تمام أو المتنبی... وما صاحبهما كهذا ولا ذاك لقد قصر فقُصِّر به، ولكن أعطی حقه وفوق حقه... ولو أن شعر دیك الجن عثر علیه من أوله إلى آخره لما رفع من قیمة هذا الشاعر درجة واحدة.. لأن أجمل شعره قد تداولته كتب النقد والمختارات، وما تبقى فهو من سقط المتاع أو ما یوازی سقط المتاع، ولكن المجهول له بریق فلیحلم من یحلم بالعثور على الدیوان.. وقد یقال: أنى لك أن تحكم على أمر وهو فی ظهر الغیب؟ وأقول: إن خبرتنا بتراثنا وطبیعة كتبه تجعلنا نقیس المجهول على المعلوم، وتساعدنا على معرفة قیمة كثیر مما ضاع قیاساً على قلیل مما بقی... وأظن أن فی هذا ما یشجع على إطلاق بعض الأحكام.

هذه جولة حول دیك الجن وشعره، إنها جولة خواطر وتداعی أفكار، لم تقم على أسس البحث المدرسی، ولم تتبن تقسیماته بل ولجت حجرة دیك الجن، وحاولت ولوج نفسه، وحامت حول عصره، ولم تنظر إلیه بعین الحب و الإعجاب والرضا بدافع من عصبیة المدینة أو عصبیة الكتابة عنه، بل كانت قاسیة علیه، شدیدة القسوة، جردته من كثیر من الأقنعة التی أسبغتها علیه كثیر من الدراسات التی غرق أصحابها فی إعجاب مفتعل بكل ما لا یعجب ولا یروق وبعد:

فلیبق دیك الجن أسطورة، ولیبق مقصفاً، لیبق شعراً بلا دراسة، وشاعراً بلا تحلیل...

عبد الإله نبهان.

*حواشی:

(1) انظر تاریخ حمص، ص118، وما بعدها مؤلف الكتاب هو منیر الخوری عیسى أسعد نشرت الكتاب مطرانیة حمص الأرثوذكسیة 1984.

(2) مرآة الجنان 4: 99.

(3) كتاب الأنوار، نشر فی الكویت بتحقیق المرحوم محمد یوسف، فی مجلدین.

(4) نشر تاماً فی دار قتیبة بدمشق بتحقیق الدكتور رضوان الدایة، وینشر الآن منجماً فی الكویت، وظهر منه المجلد الأول بتحقیق الدكتور محمد یوسف نجم 1984.

(5) صدر هذا الكتاب عن المؤسسة العربیة للدراسات والنشر بتحقیق الدكتور إحسان عباس الطبعة الأولى 1980م.

(6) سرور النفس: 116 117.

(7) العدملی: القدیم المسن، الملدح عن اللدح وهو الضرب بالید، وعمرو بن مرثد بن سعد من قیس بن ثعلبة مشهور بكرم الأولاد والسادة الفرسان، معجم الشعراء: 13، بتحقیق عبد الستار فراج.

(8) دیوانه 110، والإحالات إلى الدیوان الذی حققه الأستاذان عبد المعین الملوحی ومحی الدین الدرویش.

(9) رسالة الغفران: 446، الطبعة الخامسة بتحقیق الدكتورة بنت الشاطئ، دار المعارف بمصر.

(10) دیوانه: 66، والأبیات فی دیوان المعانی للعسكری 2: 251. والأول منها فی رسالة الغفران.

(11) رسالة الغفران :446.

(12) انظر تاریخ الإلحاد فی الإسلام للدكتور عبد الرحمن بدوی وخاصة الصفحات المائتین الأولى.

(13) دیوان دیك الجن: 108، ونسب البیت فی روضة المحبین 151 إلى قیس بن الملوح.

(14) دیوانه 47، وذكر المحققان أن صاحب الوساطة رواهما لأبی نواس: وأنهما رویا لغیر هذین الشاعرین أیضاً.

(15) الدرة الفاخرة فی الأمثال السائرة: 1: 207، برقم 273، قال مؤلفه حمزة بن الحسن الأصفهانی المتوفى حوالی سنة 351ه، معلقاً على هذا المثل: فلأن حمص كلها للیمن، لیس بها من قیس إلا بیت واحد، فهم أذلاء. نشر الكتاب بدار المعارف بمصر بتحقیق عبد المجید قطامش. وانظر أیضاً مجمع الأمثال للمیدانی 1: 283. برقم 1496، والمستقصى للزمخشری 1/ 135، برقم 523.

(16) الأبیات مختارة من قصیدة فی دیوانه 1: 337 380، دیوانه بشرح محمد الطاهر بن عاشور نشرته لجنة التألیف والترجمة والنشر بالقاهرة 1950.

(17) قال أبو عبید القاسم بن سلام: "حذو القذة بالقذة"، وهو أن یقدر كل قذة. والقذة: الریشة من ریش السهام على صاحبها سواء. كتاب الأمثال: 149، رقم 424 تحقیق الدكتور عبد المجید قطامش. نشرته جامعة الملك عبد العزیز 1980، وانظر أیضاً المستقصى للزمخشری 2: 61، برقم 228 ومجمع الأمثال 1: 195 برقم 1030.

(18) انظر مجمع الأمثال 1: 195 برقم 1030.

(19) دیوانه: 25.

(20) كتاب الأغانی 4: 423 طبعة دار الكتب المصریة.

(21) الأغانی: 4: 424.

(22) الأغانی: 4: 411.

(23) شعراء من بلاد الشام، 9 أحمد الجندی دار طلاس.

(24) كانت وفاة أبی نواس فی العقد الأخیر من القرن الثانی للهجرة بین الأعوام 195ه أو 196 197 ه وتوفی أبو تمام حوالی سنة 232ه وفی سنة وفاته اختلاف أیضاً.

(25) عمر فروخ: أبو تمام ص 87 ومابعدها، وتجد ذكر دیك الجن فیه فی ص 91.

(26) دیوانه: 28.

(27) دیوانه: 36.

(28) دیوانه 40 41.

(29) دیوانه: 57.

(30) شعراء من بلاد الشام 104 أحمد الجندی.

(31) دیوانه: 48.

(32) دیوانه: 49.

(33) قال ابن أبی عتیق لعمر بن أبی ربیعة بعد أن سمع أبیاتاً منه: أنت لم تنسب بها، وإنما نسبت بنفسك، كان ینبغی أن تقول: قلت لها فقالت لی، فوضعت خدی فوطئت علیه. الأغانی1: 11.

(34) دیوانه: 38 39.

(35) البصائر والذخائر 2: 321، بتحقیق الدكتور إبراهیم الكیلانی دمشق وانظر الكشكول 1/ 266.

(36) مقدمة الدیوان ص 7، والقصة لم ترد فی الأغانی، ووجدتها فی كتاب حیاة الحیوان الكبرى للدمیری 1: 616 دار التحریر بمصر 1965، وفی المختار من حیاة الحیوان ذكرت القصة على أنها جرت بین دعبل ودیك الجن، وكان صاحب حیاة الحیوان قد ذكر المقابلة المزعومة بین دعبل ودیك الجن نقلاً عن ابن خلكان.

(37) دیوان أبی نواس: 20 22.

(38) دیوان أبی نواس: 20 22.

(39) دیوانه: 51.

(40) الأغانی 14: 61، ودیوانه: 58.

(41) قال أبو عبید فی كتاب الأمثال: 165: وروینا فی حدیث: "إن الله یحب الجود ومعالی الأمور ویبغض سفاسفها وانظر الجامع الصغیر 1/ 69 وفیض القدیر للمناوی 2/ 226: "عن إحالات المحقق الدكتور عبد المجید قطامش".

(42) الكشكول 1: 98، تحقیق طاهر أحمد الزاوی ط.مصر 1961.

(43) لم یشر أبو الفرج ولا الصولی إلى أی لقاء بین أبی تمام ودیك الجن وهذا أمر له شأن فی إنكار الحادثة من أساسها. وذكر لقاءهما ابن رشیق فی العمدة 1/ 101 طبعه عبد الحمید.

(44) انظر الدراسة القیمة والفریدة من نوعها التی عقدها الدكتور عبد الكریم الیافی لدراسة فن أبی تمام فی كتابه: "دراسات فنیة فی الأدب العربی".

(45) مقدمة الدیوان. والحق أن هذه النغمة أصبحت شائعة فی حیاتنا الأدبیة، حتى أن بعضهم یثبت على الغلاف فلان؟.. الشاعر المجهول. وقد یكون هذا الشاعر أشهر من نار على علم لدى دارسی الأدب. وأمامی الآن وأنا أثبت هذا التعلیق عنوان طریف هو: أبو الفرج الأصفهانی أدیب مشهور ومغمور فی مجلة عالم الفكر وما أدری كیف یكون مؤلف الأغانی الذی ألفت عنه عدة كتب مغموراً على أی وجه من الوجوه.

ملحق

دیك الجن وما كتب عنه

آ شعره:

1 دیوان دیك الجن الحمصی: جمعه وشرحه الأستاذان عبد المعین الملوحی ومحی الدین الدرویش، وقدما له بدراسة طبع فی مطابع الفجر بحمص 1960، ثم أعاد نشره الأستاذ أحمد الجندی فی دار طلاس 1984.

2 دیوان دیك الجن الحمصی: بتحقیق الأستاذین عبد الله الجبوری وأحمد مطلوب دار الثقافة بیروت 1964.

3 مستدرك على شعر دیك الجن: الأستاذ یحیى زین الدین. نشره فی مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 51 ص 151.

4 المستدرك على دیوان دیك الجن: الأستاذ هلال ناجی. مجلة الكتاب العراقیة العدد: 5 السنة الخامسة أیار 1974.

5 دیوان دیك الجن: صنعة الأستاذ مظهر رشید الحجی، ما زال مخطوطاً لدیه وسینشر قریباً.

ب المصادر القدیمة:

1 التراجم:

 كتاب الأغانی لأبی الفرج الأصفهانی 356ه 966م.

 تاریخ دمشق ابن عساكر ت 571 ه 1175م.

 وفیات الأعیان: ابن خلكان ت 681 ه 1282م.

 سیر أعلام النبلاء: الحافظ الذهبی ت 748 ه 1347م.

 عیون التواریخ: ابن شاكر الكتبی ت 1362م.

2 بعض الكتب التی ذكر فیها:

 فی معجم الشعراء للمرزبانی 369 طبعه عبد الستار فراج ذكر المرزبانی محمد بن سلامة ابن أبی زرعة الدمشقی الكنانی، قال: شاعر محسن، وهو ودیك الجن شاعر الشام.

 فی العمدة لابن رشیق 1/ 64 طبعة 1925 وفی 1/ 101 طبعة محیی الدین عبد الحمید: ودیك الجن وهو شاعر الشام، لم یذكر مع أبی تمام إلا مجازاً، وهو أقدم منه، وقد كان أبو تمام أخذ عنه أمثلة من شعره یحتذی علیها فسرقها.

3 من الكتب التی اختارت له:

1 الأشباه والنظائر للخالدیین. نشر بتحقیق المرحوم السید محمد یوسف، القاهرة 1958 1965.

2 أنوار الربیع لابن معصوم طبعة حجریة سنة 1093ه ذكره الأستاذ هلال ناجی فی مستدركه.

3 الأنوار ومحاسن الأشعار للشمشاطی. نشر فی الكویت، بتحقیق المرحوم السید محمد یوسف 1977، وسمعت أنه نشر فی العراق بتحقیق صالح مهدی العزاوی ولم أقف علیه.

4 الحماسة البصریة: البصری؟ طبع فی الهند بتحقیق الدكتور مختار الدین أحمد، ثم صور فی بیروت.

5 دیوان المعانی لأبی هلال العسكری. طبعه القدسی فی مصر سنة 1352ه ثم صور عن هذه الطبعة.

6 الزهرة لأبی بكر الأصفهانی نشره الدكتور لویس نیكل البوهیمی بیروت 1932. ورأیت جزءاً ثانیاً منه صدر فی العراق.

7 سرور النفس فی مدارك الحواس الخمس. الأصل للتیفاشی والتهذیب لابن منظور. نشر بتحقیق الدكتور إحسان عباس. لبنان.

8 فصول التماثیل لابن المعتز، نقل عنه الأستاذ هلال ناجی فی مستدركه وذكر أنه مخطوط.

9 قطب السرور فی أوصاف الخمور للرقیق الندیم. نشره مجمع اللغة العربیة بدمشق، بتحقیق أحمد الجندی وعقب علیه بمقالة نقدیة هامة الأستاذ الشاعر رفیق فاخوری. انظر مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 45، ص 181 وما یزال الكتاب بحاجة إلى نظر.

10 محاضرات الأدباء للراغب الأصفهانی طبع فی المطبعة الشرقیة سنة 1326ه.

11 كتاب المشموم للسری الرفاء "سیصدر قریباً بتحقیق المرحوم الأستاذ مصباح غلاونجی"، وقد نشرت مقدمته فی مجلة التراث العربی فی العدد المزدوج 15 16 سنة 1984.

12 المنصف لابن وكیع، نشره محققاً الدكتور محمد رضوان الدایة، بدمشق، وصدر الجزء الأول منه فی الكویت بتحقیق الدكتور محمد یوسف نجم.

13 المصون فی الأدب لأبی أحمد العسكری. نشره محققاً الأستاذ عبد السلام هارون فی الكویت عام 1960، وصدرت له طبعة ثانیة فی القاهرة والریاض سنة 1982 مصححة ومنقحة وفیها فهارس إضافیة. وانظر مقالة نقدیة لطبعته الأول فی مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 55 الجزء الثانی.

14 معاهد التنصیص لعبد الرحیم العباسی. طبع فی القاهرة عام 1316 ه ثم نشره المرحوم محمد محیی الدین عبد الحمید.

15 نهایة الأرب للنویری. دار الكتب المصریة. وما زال یصدر تباعاً.

ج الكتب والدراسات المعاصرة.

1 الكتب:

1 دیك الجن الحمصی: البدوی الملثم "یعقوب العودات".

2 دیك الجن الحمصی: نسیب عریضة.

3 دیك الجن والحب المفترس: رئیف خوری منشورات دار المكشوف لبنان 1948 سلسلة أشهر العشاق.

4 دیك الجن الحمصی: دراسة فی شعره مظهر رشید الحجی "مازال مخطوطاً".

2 المقالات والبحوث:

1 أحمد الجندی: خص دیك الجن بدراسة ضمن كتابه "شعراء من بلاد الشام"، دار طلاس دمشق 1984.

2 خلیل مردم بك: خص دیك الجن بدراسة ضمن كتابه "شعراء الشام".

3 سمر الفیصل: مجلة البحث التاریخی حمص العدد الأول.

4 عبد العلیم صافی: مجلة الأمل: "وهی مجلة كان یصدرها المیتم الإسلامی بحمص"، السنة الثانیة الأعداد: 4 5 6 7.

5 عبد المعین الحمصی: محاضرات الموسم الثقافی 1961 1962 وزارة الثقافة دمشق.

6 عبد المعین الملوحی: مقدمة الدیوان بالاشتراك مع المرحوم محی الدین الدرویش.

7 محمد رجب البیومی: مجلة الأمل القاهرة السنة 14 العدد 70.

8 محمد النقدی: مجلة الحدیث حلب 24: 598، 603.

3 كتب التراجم المعاصرة:

1 أعلام الأدب والفن: المرحوم أدهم الجندی.

2 الأعلام "قاموس تراجم" المرحوم خیر الدین الزركلی.

3 أعیان الشیعة: المرحوم محسن الأمین "توفی 1952".

4 معجم المؤلفین: عمر رضا كحالة.           

 

مجلة التراث العربی-مجلة فصلیة تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 20 - السنة الخامسة - تموز "یولیو" 1985 - ذو القعدة 1405





نظرات:

lqnEXcBEfy
«uonompudrf» می‌گوید:
«3yUL56 wtsfiyivaoxl, [url=http://bomrmhincrjo.com/]bomrmhincrjo[/url], [link=http://nzcpkikiffxi.com/]nzcpkikiffxi[/link], http://xfomknxekuzy.com/»

«عزیزه آلبوغبیش » می‌گوید:
«با سلام وآرزوی موفقیت مطالب مقاله شما درمسیر تحقیقات پایان نامه این جانب مفید واقع بود برای شما آرزوی سربلندی وسرافرازی می نماییم »



متن امنیتی

گزارش تخلف
بعدی