المجون فی شعر بشار بن برد

المجون فی شعر بشار بن برد دوافعه وأبعاده
ـــ د.أحمد علی محمّد(*)

المقدمة:

دواعی البحث ومشكلته ومنهجه:

كانت دوافع أغلب الدراسات الأدبیة التی تناولت موضوع المجون فی الشّعر العباسی خاصة تتركز حول أثر الظروف التاریخیة التی أسهمت فی نشوء تلك الظاهرة، فكانت النتیجة التی خلص إلیها معظم تلك الدراسات لا تخرج عن حدود الأحكام العامة والتقییدات المنهجیة التی یظهر بموجبها الشعراء وكأنّهم انتظموا فی مدارس وهیئات منظمة وحملوا أفكاراً محددة ثم أشاعوها بصورة مقصودة، ومن هنا تسنى لكثیر منهم الكلام على تیارات ومذاهب واتجاهات لها خصائصها الفكریة والفنیة الممیزة، والواقع أنّ هذا النهج المدرسی فی دراسة الفن قائم على مغالطة واضحة، ذلك لأنّ الفن خارج عن التقیید، وبعید عن التصنیف، لأنّه محكوم بالخصوصیة، من أجل ذلك كان تلمس الحقائق الموضوعیة فی دراسة ظواهر الفن لا یأتی بما هو موصولٌ بطبیعته.

إنّ التصنیفات المنهجیة لا تكترث فی النتاجات الأدبیة إلا بما هو متكرر أو ما یشكّل خطوطَ ظاهرةٍ عامة، لتكون هنالك نتائج وخصائص ومقومات مشتركة لهذه الفئة من الشعراء أو تلك، وهنا تكمن الخطورة التی یخضع بموجبها الشّعر إلى أفكار مصممة مسبقاً، فإصرار الباحثین على استخلاص القیم العامة والخصائص المشتركة یلغی مفهوم الخصوصیة لكلّ شاعر بل لكلّ نصٍّ، لأنّ الشّعراء مختلفون فیما بینهم، واستجابتهم للأفكار متباینة. هذا أمر، وأمرٌ آخر أنّ الشعر العربی فی كلّ تفصیلات تاریخه لم یكن منبعثاً عن اتجاهات فكریة، ولم یكن ملتزماً بالتعبیر عنها بصورة قسریة إلا ما كان من شعر الفِرَقِ، وهذا لیس اتجاهاً عاماً فی الشعر العربی على أیة حال، أو أنّ شعر الفِرق لم یشكّل لدى القارئ العربی حضوراً دائماً فی الذاكرة، وإنّما هو شعر تستدعیه الحوادث التاریخیة والصراعات المختلفة التی كانت قائمة بین المذاهب والأحزاب، وقد أكد الزمّان أنّ الشّعر الجید الذی عبر عن صموده الأزلی هو الشّعر الذی قیل بمعزل عن الظروف التی كانت تحیط به، وخارج إطار الأفكار التی كانت سائدة فی حقبة من الحقب أیضاً، بدلیل أننا نقرأ شعر المتنبی والبحتری وابن الرومی الیوم لما یمثله ذلك الشّعر من خصوصیة، ومن هنا أصبح یلبی عندنا حاجة جمالیة تشبع رغبتنا للتمیز والإبداع.

لقد آثر أغلب من درس الشعر وَفْق تیارات فكریة اعتباره دلیلاً على وجود تلك الأفكار وشیوعها وبیان آثارها فی الواقع، بمعنى أنّ هذا النمط من الدراسات لم یُعْنَ بالظاهرة الأدبیة، لأنّ المجون على سبیل المثال شكّل لدیهم موضوعاً فكریاً، فكان الشعر حاملاً لذلك الموضوع، والأصل أن یُدرس المجون على اعتباره موضوعاً فنیاً غیر تابع للأفكار أو الأحداث، لأنّ الشّعر فی الحقیقة لا یستطیع التعبیر عن الأفكار الدقیقة كما یعبر عنها النثر، وإذا ما حدث مثل ذلك خرج الشّعر على طبیعته، بدلیل أنّ الذین حاولوا تضمین الشّعر الأفكار والمعارف العلمیة حولوه إلى قوالب جامدة دخلت فی إطار الشعر التعلیمی الذی یخلو من روح الفنّ، والحقّ أنّ الشّعر هو الذی یخلق الأفكار ویبتكر المعانی ویثیر الانفعالات ومن ثَمَّ یحمل الناس على التأثر والتواصل والتمثل، یقول أبو تمام:

ولولا خلالٌ سنّها الشّعرُ ما دَرَى          بُغَاةُ المعالی أین تُؤتى المكارمُ

ومن الدراسات التی بالغت فی تصنیف الأسباب الموضوعیة لظاهرة المجون دراسة هدارة الموسومة بـ "اتجاهات الشعر فی القرن الهجری الثانی" حیث وضع الباحث یده على جملة من الأسباب التی جعلت من المجون تیاراً فنیاً جارفاً، وقد حدد أولاً الإطار الزّمنی لهذه الظاهرة بالقرن الهجری الثانی ملغیاً المحاولات الفنیة السابقة فی هذا الموضوع لأنّها لم تشكّل عنده تیاراً فنیاً له خصائصه ومقوماته الممیزة، ثم حدد مفهوم المجون بقوله: "هو ارتكاب المآثم والدعوة إلى التحلل الأخلاقی، ومجانبة الآداب بدعوى الحریة الفكریة"([2">)، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: هل الشعر عبر فواصل تاریخه كان ینطق بما یوافق الأخلاق والفضائل؟ ثم متى كان الجانب الأخلاقی أو حتى الموضوع الشعری معیاراً لجودة الفنّ عامة والشّعر خاصةً؟ وهل موضوع الهجاء ـ وهو من أوسع أبواب الشعر العربی ـ بعیدٌ عن ارتكاب المآثم والتحلل الأخلاقی، وخصوصاً ذلك الهجاء الذی یعمد فیه الشعراء إلى القذف والفحش؟ ثم هل كان الغزل العربی أو حتّى المدیح خالصاً لوجه الأخلاق؟

إذا كان المجون عند هدارة ما هو إلا التصریح بالمآثم والتحلل الأخلاقی ومجانبة الآداب، فإنّ باباً واسعاً فی الشّعر العربی دخل فی المجون، وعلیه فإنّ الباحث لم یوفق فیما أرى بتحدید هذا المفهوم تحدیداً موضوعیاً، أو أنّه لم یستطع ضبطه بما یوافق مجالات استخدامه الحقیقة، فما اصطلح علیه بشعر المجون وإن كان متسعاً إلا أنه لا یخرج عن حدود العبث مع ما ینطوی علیه ذلك المفهوم من عوالق وملابسات، وتحت هذا الإطار یمكن أن ندرج مجون بشار ومجون أبی نواس. والعبث لم یكن منقطعاً عن الأسباب والدوافع الشخصیة، من أجل ذلك كان مجون بشار یختلف عن مجون أبی نواس، لأنّ هنالك من الأسباب النفسیة والاجتماعیة والثقافیة والطباع ما یجعل المجون نزوعاً فردیاً یدل على سمات خاصة، إذ الناس فی هذه الأمور مختلفون، فهم وإن تقاسموا صفة العبث إلا أنّ لكلّ فرد دوافعه، ثم إن مؤدى العبث بین الشعراء متباین، فعبث بشار لم یصل إلى درجة تعابث أبی نواس مثلاً، كما أنّ عبث أبی دلامة لم یصل إلى درجة عبث بشار، فهؤلاء جمیعاً كانوا من المجان ولكن لكلّ نفر منهم أسبابه ودوافعه.

لقد وقف كلّ من د. طه حسین وفلهوزن وعبد الرحمن بدوی كما یصور هدارة([3">)، عند أسباب المجون، فزعم د. طه حسین أنّ التماجن فی الشعر قد بدأ بتحول السلطة من الأمویین إلى العباسیین، ویرمی من وراء ذلك إلى أنّ العنصر الفارسی كان له الأثر البارز فی نشوء هذه الظاهرة، ثم تبنّى هدارة هذا الرأی عندما لاحظ أنّ أغلب الشعراء المُجّان كانوا من الموالی، وهذا مؤداه إلى أمرین: الأول یشی بأنّ عهد بنی أمیة كأنّه عهد لم یُعَبّر فیه الشّعراء إلا عن الفضائل، وهذا غیر صحیح على الإطلاق فصور النقائض التی شارك فیها كبار شعراء بنی أمیة كلّها فی الهجاء القائم على التهتك وتتبع سوءات الشعراء والطعن فی أنسابهم وتحقیرهم إلى الحدّ الذی تنتفی فیه إنسانیتهم، ثم إنّ شعر الفرزدق وما فیه من فحش هل یُصَنّف خارج دائرة المجون؟

وإذا أعدنا النظر فی غزل الأمویین كغزل عمر بن أبی ربیعة ووضاح الیمن وغیرهما، فهل نجد فی ذلك الغزل ما یخالف غزل بشار وأبی نواس؟ والأهم من ذلك هل كان الشعر الجاهلی بمنأى عن التعابث والمجون، فماذا بشأن خمریات الأعشى هل تخرج عن المجون؟ وهل نستطیع أن نعد شعر الأعشى ومجاهرته بشرب الخمرة وفتونه بها إلى الدرجة التی صرفته عن الدخول فی الإسلام أقل من ظاهرة فنیة؟

ما معنى الربط بین المجون وتحول السلطة من الأمویین إلى العباسیین إذن؟

والثانی یتصل بالحكم النقدی المعزول عن الموضوعیة، فهل كان كلّ شعراء المجون من الموالی؟ ألم یكن أبو دلامة زند بن الجون والحسین بن الضحاك الخلیع وغیرهما على رأس شعراء المجون فی العصر العباسی؟

لقد تسنى للدكتور هدارة أن یقول: "إنّ المجون لم یكن دعوة ساذجة بریئة تدعو إلى الترف والتظرف الاجتماعی فحسب، وإنما هو نتیجة مؤثرات عمیقة اجتماعیة وفكریة ودینیة"([4">).

من أجل ذلك جعل الشعوبیة من دوافع المجون عند الشعراء الموالی على اعتبار الشعوبیة كما قال: "كانت تهدف إلى تحطیم معنویات المسلمین ودس الأكاذیب والمفتریات فی أصول دینهم حتى ینتقموا لأصولهم الفارسیة"([5">)، فلما وصل فی بحثه إلى ذكر بعض الشعراء العرب قال: "هنالك من شعراء المجون من لا صلة لهم بالشعوبیة والذی دعاهم إلى ذلك عوامل اجتماعیة وثقافیة"([6">)، وهذه نتیجة محیرة تثیر جملةً من التساؤلات أبرزها: كیف تجتمع أهداف الشعوبیة التی تحضّ الشعراء الأعاجم على إشاعة الفساد والتحلل والإباحیة لتخریب بنیة المجتمع العربی من الداخل تمهیداً للقضاء على وحدته وتسریع انهیاره، مع الأسباب الاجتماعیة والثقافیة النابعة من صمیم المجتمع العربی والتی تدفع هی الأخرى الشعراء العرب إلى الفساد والتحلل والإباحیة، ثم ما مؤدى ذلك؟ هل البنى الاجتماعیة والثقافیة فی المجتمع العربی العباسی أسهمت هی الأخرى فی مجون شعرائها لتهدم نفسها بنفسها أیضاً، أقول كیف اجتمعت أهداف الشعوبیة مع العوامل الثقافیة والاجتماعیة فی نشوء ظاهرة المجون إذا كانت بالفعل ذات أغراض سیاسیة؟

إنّ المجون عند هدارة مقدمةٌ وفاتحة وتمهیدٌ للزندقة، فإذا كان المجون قد انحصر بالتعبیر عما یجانب الخلق القویم والدعوة إلى الإباحیة، فإن الزندقة عنده تلامس الشعور الدینی والعقیدة، فكلّ معنىً تردد فی شعر العباسیین الذین ظهروا فی القرن الثانی یشكك فی سلامة العقیدة هو داخل فی الزندقة والإلحاد، وعلى هذا الأساس عدّ الزندقة كالمجون محصورة فی شعراء القرن الهجری الثانی، وهذا اعتبار خاطئ أیضاً لأنّ الزندقة المرادفة للإلحاد لا تتصل بزمن دون زمن، ولو أردنا تبیان ذلك لضاق المقام بنا.

لسنا فی الواقع ننكر أثر الشعوبیة فی بث الفرقة بین طبقات المجتمع، ولسنا بصدد نفی تهمة الشعوبیة عن الشعراء الموالی، فهذا أمر یثبته التاریخ، غیر أننا ننكر بشدة أن تكون هناك أسبابٌ ودوافعُ واحدة لتعابث الشعراء ومجونهم، ومن ثمّ فإنّ إقرار نتائج عامة فی هذا الموضوع یضر بالشعر موضوع الدراسة الأدبیة، لأنّ ذلك فی اعتقادی یدخل فی باب دراسة تاریخ الأفكار ولا یدخل فی دراسة الشعر لأنّ الشعر ینبغی أن ُدرس لذاته، غیر تابع للتاریخ ولا الأفكار ولا العقائد، وعلیه فإننا نرید دراسة ظاهرة المجون فی شعر بشار فی إطارها الخاص وأسبابها الشخصیة المتصلة بالشاعر، ومن ثم تبیان أبعادها فی شعره، والتساؤل بعد ذلك عن قیمتها الفنیة والمكانة التی تشغلها فی تاریخ بشار الشعری، فی محاولة لفهم شخصیته وتقدیر الفنّ الذی جاء به، مصورین مشكلة البحث بالتساؤل الآتی: إذا كان بشار بن برد ماجناً زندیقاً، وهو فی مجونه وزندقته مدفوع إلى "تحطیم معنویات المسلمین ودس الأكاذیب فی دینهم حتى ینتقم لأصوله الفارسیة" ([7">) كما قال هدارة على اعتباره شاعراً شعوبیاً ومولى، فكیف تقبّلَه القارئُ المسلم، وكیف تسنم المكانة السامقة فی سماء الشعر العربی، ولماذا قدمه النقاد العرب المسلمون على سائر شعراء عصره، ولماذا لا یزال الدرس الأدبی یحفل به وبشعره كل هذا الاحتفال؟ وبمعنى آخر: ما أثر مجون بشار مع قبح ما یعنیه المجون فی تقییم شخصیته وشعره؟ وهل كان الناس فی العصور المنصرمة قد وضعوا مجونه جانباً حین حكموا على جودة شعره؟ أم أن الأحكام القاسیة التی أطلقها النقد الحدیث على بشار ومجونه فیها من العسف والظلم ما لم یره المتقدمون؟

أما المنهج الذی نرید من خلاله النظر إلى مجون بشار فقائم على عرض الأخبار التی ساقها الأدباء وعلى رأسهم الأصفهانی، المتصلة بمجونه وتحلیلها ومناقشتها ومقابلتها بأشعاره المشهورة فی هذا الباب. ومن ثم عرض آراء بعض المحدثین فی مجون بشار وتحلیلها ومحاورتها بغیة الوصول إلى فهم واضح لدوافع وأبعاد قضیة المجون فی شعر بشار، وقد استقامت لنا خطة هذا البحث فجعلناه فی ثلاث نقاط أساسیة:

ـ ظواهر مجون بشار.

ـ دوافع مجونه النفسیة والاجتماعیة والفكریة.

ـ أبعاد المجون وأثره فی تقییم شخصیته وشعره.

1. مجون بشار:

لقد علقت شبهةُ المجون والزندقة بشخصیة بشار من جراء سلوكه قبل كلّ شیء، فهو بطبیعته متبرم بالناس مفطور على استعدائهم، إذ شحذ لسنه منذ الصغر بهجائهم، حتى لكأن موضوع الهجاء كان وسیلة لإثبات وجوده، ثم كان موضوع الغزل مجالاً آخر لتثبیت تلك التهمة على اعتبار الغزل كان أداته للتعبیر عن اللذة والمتعة التی كان یمیل إلیها بطبیعته، فكان مجونه متردداً بین هجائه وغزله على نحو خاص حتّى قال یونس النحوی على نحو ما روى ابن سلام: "العجیب من الأزد یدعون هذا العبد ینسب بنسائهم ویهجو رجالهم یعنی بشاراً"([8">).

هجاء بشار وشبهة المجون:

كان بشار ـ على نحو ما یذكر الأصفهانی ـ قد قال الشعر ولما یبلغ عشر سنین، فكأن أول عهده بالشعر یهجو الناس، "فإذا هجا قوماً جاؤوا إلى أبیه فشكوه فیضربه ضرباً شدیداً، فكانت أمه تقول: كم تضرب هذا الصبی الضریر، أما ترحمه؟ فیقول: بلى والله إنی لأرحمه، ولكنه یتعرض للناس فیشكونه إلی، فسمعه بشار فطمع فیه فقال: یا أبت إن هذا الذی یشكونه منی إلیك هو قول الشعر، وإنی إن ألممت علیه أغنیتك وسائر أهلی، فإن شكونی إلیك فقل لهم ألیس الله یقول: لیس على الأعمى حَرَجٌ فلما أعادوا شكواه قال لهم بُرد ما قاله بشار فانصرفوا وهم یقولون فقْه بُرد أغْیظ لنا من هجاء بشار"([9">).

وواضح أنّ بشاراً منذ صغره قد أدرك خطورة الهجاء، وأثره البالغ فی الناس فشحذ لسانه بذمهم لیهابوه ویتجنبوا معرة لسانه، وفی الوقت نفسه جعل من الهجاء وسیلة للتكسب فروی عنه أنّه قال: دخلت على الهیثم بن معاویة وهو أمیر البصرة فأنشدته:

إنّ السلام أیّها الأمیر             علیك والرحمة والسرور

فسمعته یقول: إن هذا الأعمى لا یدعنا أو یأخذ من دراهمنا شیئاً، فطمعت فیه فما برحت حتى انصرفت بجائزته"([10">). ولذلك كان الموسرون بالبصرة یسترضونه تجنباً لهجائه، وهو بطبعه لم یكن یحسن مصانعة الناس، ومن ثم لم یكن بارزاً فی المدح كبروزه فی الذم، وقوله فی الخبر الآنف لأبیه: "أغنیك وسائر أهلی" عظیم الدلالة على میله الشدید إلى الهجاء، وتكریسه هذا الموضوع للنیل من الخصوم ومن ثم حصوله غصباً على جوائزهم.

كل الهجاء سلاحاً ذا حدین، فهو من جهة أسلوب ناجع فی رد ع الخصوم والنیل منهم انتقاماً وتشفیاً، وبالفعل كان الناس فی مختلف طبقاتهم ومراكزهم یخافون لسانه، لأنه فاحش القول وشعره سائر بین الناس، یتناقله المغنون وتنشده الجواری وتنوح به النائحات، كما كانت مجالس العلماء تحفل بأشعاره أشد ما یكون الاحتفال، إذ الأصمعی وهو من النقاد المتشددین كان یرى أن بشاراً خاتمة الشعراء، ولولا أنه متأخر عن زمن الفحول لكان قدّمه على كثیر منهم، وهو من جهة أخرى السبب الذی أحدث جفوة بینه وبین الناس، بل كان هجاؤه باباً للقدح فی عقیدته، وإبراز مجونه وزندقته، ولیس ذلك فحسب بل كان الهجاء سبباً فی مقتله كما سنرى.

إذن بشار من محترفی الهجاء، تصید فیه سقطات الخصوم، وأمعن فی تصویر مباذلهم، وقد تمرس فی هذا الباب كما تروی الأخبار، إذ حمل فی نفسه صور النقائض التی كانت تدور بین أعلام الشعر الأموی، ولهذا اختلف إلى المربد وعاین جولات الخصوم فی التهاجی، وقد أحب أن یشارك فی ذلك، فقال: "هجوت جریراً لم یجبنی ولو أجابنی لكنت اشعر الناس"([11">) إذ أراد أن یمتحن قدرته البیانیة فی الهجاء فكانت نفسه تنازعه إلى مقارعة جریر وغیره من كبار الشعراء.

وما إن تمكن من هذه الأداة الجارحة حتى انخرط فی مهاجاة أعلام عصره، وكبار الشخصیات إذ نراه یتعرض للمفكرین والزهاد والنقاد والنحاة والشعراء، فكان هجاؤه لواصل بن عطاء قد أضفى على شخصه رنیناً هائلاً، وبالمقابل أشعر خصمه بإهانة بالغة، والخلاف بین الرجلین غامض إذ لم تفصل المصادر فیه، وكل ما هناك أن بشاراً كان فی بادئ أمره من أصحاب الكلام، وكذلك كان واصل بن عطاء، فلما صار واصل إلى الاعتزال وصار بشار كمما یقول الأصفهانی إلى الرجعة، حدث اختلاف بین الرجلین من حیث المذهب الفكری، فانقلبت العلاقة بینهما من علاقة ود وإعجاب، إذ سجل الأصفهانی شعراً یمدح فیه بشار واصلاً ویشید بخطبه وبلاغته، إلى علاقة عداء وخصومة، فهجاه هجاء موجعاً فی قوله:

مالی أشایع غزّالاً لـه عنق                 كنِقْنِقِ الدَّوِّ إن ولّى وإن مثَلا

عُنقَ الزرافةِ ما بالی وبالُكمُ                 أتكفرون رجالاً أكفروا رجلا؟

فما كان من واصل إلا أن حرّض الناس علیه متهماً إیاه بالزندقة والفجور، فكان یقول فی مجالسه: "أما لهذا الأعمى الملحد المكنیّ بأبی مُعاذ من یقتله، أما والله لولا أن الغیلة سجیة من سجایا الغالیة لدسَسْت له من یبعج بطنه فی جوف داره"([12">).

وواضح أنّ الخصومة بین الرجلین حملت واصل بن عطاء على اتهام بشار بالزندقة، وكانا قبل ذلك على ود ومحبة، والسؤال هنا: هل كان بشار قبل مخالفته واصل بن عطاء ملتزماً بالمبادئ داعیاً إلى المثل متقیداً بالأعراف، وهل كان تحوله إلى المجون بعد ما دب الخلاف بینه وبین واصل؟ فی الحقیقة أنّ مجون بشار مرتبط بمحاولاته الأولى فی النظم بدلیل أنّه كان یهجو الناس منذ صغره ویتعرض لأنسابهم ویقدح فی أعراضهم، غیر أنّ واصلاً فیما یبدو لم یثره كل ذلك فی بدایة الأمر لأنّه كان على وفاق مع بشار، ولما اختلفا أخذ یبین عَواره ویتتبع سقطاته فی أشعاره الماجنة ویدعو الناس إلى قتله والتخلص منه كما یبین الخبر الآنف.

________________________________________

* باحث من سوریة.

([2">)  اتجاهات الشعر فی القرن الهجری الثانی، محمد مصطفى هدارة، ص:203.

([3">)  حدیث الأربعاء، طه حسین، 2/81، وتاریخ الإلحاد، عبد الرحمن بدوی.

([4">)  اتجاهات الشعر، محمد مصطفى هدارة، ص230.

([5">)  المرجع نفسه ص215.

([6">)  المرجع السابق.

([7">)  المرجع السابق، ص218.

([8">)  الأغانی للأصفهانی: 3/149.

([9">)  الأغانی للأصفهانی: 3/146.

([10">)  المرجع نفسه.

([11">)  نفسه 3/162.

([12">)  نفسه.

لم یسلم العلماء والنحاة من هجاء بشار فقد عرّض بالأصمعی وسیبویه وغیرهما من الأعلام بسبب بعض ما أخذا علیه فی اللغة أو النحو، فهو مثلاً یهجو سیبویه ویعیره بأمه الفارسیة، وهنا نلتفت إلى ناحیة مهمة تتصل بشعوبیته، وموقفه الباطن أو الظاهر من الصراع بین العرب والأعاجم، فقد قیل إنّ بشاراً شعوبی متعصب للعجم دون العرب، وهذا الأمر كما أظن ناجم عن مواقف شخصیة أكثر من كونه موقفاً سیاسیاً أو فكریاً أو ثقافیاً، فالمتأمل شخصیة بشار یجد أنّه رجلٌ حاد الطباع متقلب المزاج سریع الاستجابة لما حوله شدید الانفعال، یمكن أن یثور لأقل الأسباب، فماذا یمكن أن نتوقع منه حین یكون فی مجلس فیدخل أعرابی فینال منه ویزدریه، یقول الأصفهانی: "دخل أعرابی على مَجْزَأة بن ثور السدوسی وبشار عنده وعلیه بزّة الشعراء، فقال الأعرابی: من الرجل؟ فقالوا: شاعر، فقال: أعرابی هو أم مولى؟ قالوا: بل مولى، فقال ما للموالی وللشعر؟ فغضب بشار وسكت هنیهة ثم قال: أتأذن لی یا أبا ثور؟ قال: فقل ما شئت یا أبا معاذ فقال":

خلیلی لا أنام على اقتسار                 ولا آبى على مولى وجار

لقد رأى كثیر من الدارسین فی مثل هذا الشاهد ما یدل على شعوبیة بشار، إذ عاب على العرب عاداتهم وسخر من أحوالهم، وبالمقابل افتخر بأصله الفارسی، والصحیح أن مثل هذا الشعر لا یخرج عن الإطار الذی قیل فیه والمناسبة المتصلة به، والدافع الذی حمل بشاراً على قوله، فلا یعدو كونه ردة فعل طبیعیة من قبل شاعر كبیر كبشار.

وما من أحد ینكر عصبیة بشار لأصوله الفارسیة، ومبالغته فی الإشادة بنسبه، واعتزازه الشدید بقومه، ولكن هذا الأمر لا ینحل بالضرورة عن مسألة التحزب، أو العمل المنظم فی إطار الشعوبیة لبلوغ أهداف سیاسیة كما توهم بعض الدارسین، بل ینحل عن موقف شخصی، وكیف لا؟ وبشار قد بلغ ما بلغ من الشهرة وذیوع الصیت وعلو القدر، فلیس أقل من أن یدافع عن ذاته ویرد كید الخصوم بكل ما أوتی من قوة، لأنه فی مثل هذه الظروف یدافع عن ذاته وشاعریته وتمیزه، من أجل ذلك لم یكن متسامحاً حتى مع سیبویه وهو من أصل فارسی حین عاب علیه قوله:

تلاعب نینان البحور وربما                  لهوت بها فی ظل مرؤومة زهر

فقال سیبویه لم أسمع بنون ونینان، فلما بلغ ذلك بشار بن برد قال فی هجائه([1">):

أَسِبْوَیْهِ یا بن الفارسیة ما الذی             تحدثت عن شتمی وما كنت تنبذ

وهذا یدل على أنّ بشاراً لم یدخر وسعاً فی اكتساح الخصم مهما كان، سواء أكان من العرب أو الفرس، وهذا أمر كما قلنا یتصل بطباعه ونفسیته ولم یكن بحال من الأحوال طویة أو فكرة خبیئة یحارب من أجلها لبلوغ هدف من الأهداف، لهذا كان الهجاء عنده ناجماً عن مواقف معینة ومرتبطاً بمناسبات محددة.

لقد كان هجاء بشار متلوناً بتلون المواقف التی عاشها، ومختلفاً باختلاف الشخصیات التی تناولها، وهو من ثم صورة واقعیة لتفصیلات حیاته الخاصة، وقد انحل فی ذلك الهجاء نزوعه الفطری إلى هذا الغرض الفنی الذی وجد فیه ذاته وعبر به عن وجوده، والواقع أن عاهته قد لعبت دوراً بارزاً فی هذا الأمر، فكانت تدفعه إلى درء شر الخصوم بالذم والمهاجاة، من أجل ذلك انحط فی هجائه لیتناول به صغار الشعراء أمثال حماد عجرد، وحماد أدنى طبقة منه كما یقول الجاحظ: "بشار فی العیوق، وحماد فی الحضیض"([2">)، ولیس ذلك فحسب بل شهر الهجاء بوجه عامة الناس والسوقة، وهذا ما أذهبَ بشاشة شعره، وجعله هدفاً للخصوم لیوجهوا السهام إلى عقیدته أولاً، كالذی كان یصنعه حماد عجرد وقد دس علیه كثیراً من الأقوال، ونحله بعضاً من الأشعار ثم أشاعها فی الناس لیبرزه فاسقاً ماجناً، ولعل أخطر تلك الأشعار التی حرفها قوله:

یا بن نهبى رأسی علی ثقیل                 واحتمال الرؤوس خطب جلیل

ادع غیری إلى عبادة الاثنیـ               ـن فإنی بواحد مشغول

یا بن نهبى برئت منك إلى الله              جهاراً وذاك منی قلیل

وقال الأصفهانی: "فأشاع حماد هذه الأبیات لبشار، وجعل فیها مكان "فإنی بواحد مشغول" فإنی عن واحد مشغول" لتصح علیه الزندقة، فمازالت الأبیات تدور فی أیدی الناس حتى انتهت إلى بشار فاضطرب منها وجزع، وقال أساء بذمی، والله ما قلت إلا "فإنی بواحد مشغول" فغیرها حتى شهرت فی الناس"([3">).

ولم یكن بشار قد اقتصر على هجاء العامة والدهماء من الناس، وإنما تجاسر على الكبراء والقادة والرؤساء، وهذا أسهم بدوره فی تشنیع سیرته، فقد روی أنه هجا روح بن حاتم فحلف أن یقتله، غیر أنّ بشاراً استجار بالمهدی فشفع له عند روح، ثم هجا العباس بن محمد، كما هجا غیره من الكبراء، وقد كان هجاؤه للخلیفة المهدی فیه ختام حیاته إذ قتله بتهمة الزندقة وتفصیل ذلك ما أورده الأصفهانی فی قوله: "خرج بشار إلى المهدی ویعقوب بن داود وزیره فمدحه ومدح یعقوب فلم یحفل به ولم یعطه شیئاً، ومر یعقوب ببشار یرید منزله فصاح به بشار: "طال الثواء على رسوم المنزل" فقال یعقوب فإذا تشاء أبا معاذ فارحل، فغضب بشار وقال یهجوه:

بنی أمیة هبوا طال نومكم                   إنّ الخلیفة یعقوب بن داود|

ضاعت خلافتكم یا قوم فالتمسوا          خلیفة الله بین الزق والعود

فلما طالت أیام بشار على باب یعقوب دخل علیه وكان من عادة بشار إذا أراد أن ینشد أو یتكلم أن یتفل عن یمینه وشماله ویصفق بإحدى یدیه على الأخرى ففعل ذلك وأنشد:

یعقوب قد ورد العفاة عشیة               متعرضین لسیبك المنتاب

فسقیتهم وحسبتنی كمونة                 نبتت لزارعها بغیر شراب

مهلاً لدیك فإننی ریحانة          فاشمم بأنفك واسقها بذناب

طال الثواء علی تنظر حاجة                شمطت لدیك فمن لها بخضاب

تعطى الغزیرة درها فإذا أبت               كانت ملامتها على الحلاب

یقول لیعقوب: أنت من المهدی بمنزلة الحالب من الناقة الغزیرة التی إذا لم یوصل إلى درها فلیس ذلك من قبلها إنما هو من منع الحالب منها، وكذلك الخلیفة لیس من قبله لسعة معروفة إنما هو من قبل السبب إلیه، فلم یعطف ذلك یعقوب علیه وحرمه، فانصرف إلى البصرة مغضباً، فلما قدم المهدی البصرة أعطى عطایا كثیرة ووصل الشعراء، وذلك كله على یدی یعقوب فلم یعط بشاراً شیئاً من ذلك، فجاء بشار إلى حلقة یونس النحوی فقال: هل ههنا أحد یحتشم؟ قالوا له: لا. فأنشأ بیتاً یهجو فیه المهدی، فسعى به أهل الحلقة إلى یعقوب، فقال یونس للمهدی إن بشاراً زندیق وقامت علیه البینة عندی بذلك وقد هجا أمیر المؤمنین فأمر ابن نهیك أن یضرب بشاراً ضرب التلف ویلقیه بالبطیحة"([4">).

ومن الملاحظ أن المهدی أمر بقتل بشار بسبب الهجاء لا بسبب الزندقة، فالزندقة كانت شبهة حاضرة لكل من یخرج على أمر الخلیفة أو یهجوه، ولو تأملنا علاقة بشار بالمهدی لعلمنا أن الخلیفة لم یستعده بسبب شعره قبل هذه الحادثة، فسوف نعرض صوراً لاحقة لعبث بشار مع المهدی وتطاولـه على القیم وتعرضه لكبار الشخصیات كما هو الشأن فی قصته مع خال المهدی، غیر أن هجاءه لابن داود ثم تعرضه للخلیفة جعله یدفع حیاته ثمناً لذلك التعابث، ومن الطریف أن یونس النحوی كما یذكر الخبر الآنف قد استشف زندقة بشار وبدت له البینة من خلال هجاء الخلیفة لیس غیر، مما یشی أن الرجل راح ضحیة شعره، ثم كان هنالك من یرید التخلص منه فأوغر صدر الخلیفة علیه لیقتله بتهمة الزندقة، وتروی المصادر متابعة للخبر السابق أن المهدی لما ضرب بشاراً "بعث إلى منزله من یفتشه وكان یتهم بالزندقة فَوُجِد فی منزله طومار فیه بسم الله الرحمن الرحیم، إنی أردت هجاء آل سلیمان بن علی لبخلهم فذكرت قرابتهم من رسول الله  فأمسكت"([5">).

غزل بشار وشبهة المجون:

كان الغزل باباً آخر ثبتت من خلاله زندقة بشار، ذلك لأنه كان یمیل إلى الغزل كمیله إلى الهجاء، لا بل كان غزله فی نظر الزهاد والمصلحین أشد خطراً على الناس من هجائه، لشیوع شعره وسرعة انتشاره وسهولة جریانه على الألسنة، إضافة لما كان ینطوی علیه من إباحیة وفساد، فقیل لیس فی البصرة غزل ولا غزلة إلا ویروی شعر بشار، من أجل ذلك كثر من هاجمه فقال سوار بن عبد الله ومالك بن دینار: "ما شیء أدعى لأهل هذه المدینة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى"([6">)، وكان واصل بن عطاء یقول: "إن من أخدع حبائل الشیطان وأغواها لَكلماتُ لهذا الأعمى الملحد"([7">)، والواقع أن هذه المخاطر التی تصورها المصلحون والمفكرون والزهاد فی غزل بشار كانت فی غایة المبالغة، وخصوصاً أنّ نفراً من النقاد لم یرَ فی شعره كل هذا الفساد الذی أشیر إلیه، فقد قیل للمهدی حین منع بشاراً من ذكر النساء فی شعره: "ما أحسب شعر هذا أبلغ فی هذه المعانی من شعر كُثَیّر وجمیل وعروة وقیس بن ذریح وتلك الطبقة"([8">) غیر أنّ المهدی كما تقول المصادر كانت عنده غیرة على النساء فمنع بشاراً من التغزل بهن فقال: "لیس كلّ من یسمع تلك الأشعار یعرف المراد منها وبشار یقارب النساء حتى لا یخفى علیهن ما یقول وما یرید وأی حرة حصان تسمع قول بشار فلا یؤثر فی قلبها، فكیف بالمرأة الغزلة والفتاة التی لا همّ لها إلا الرجال"([9">)

إنّ موقف المهدی من غزل بشار لا یستقیم على قاعدة واحدة، فهو وإن كان غیوراً على النساء، خائفاً من الفتنة التی یصنعها بشار فی قلوبهن، إلا أنّه فی مجالسه الخاصة كان یدعوه إلى إجازة ما یرتج علیه من أبیات فی الغزل، كالذی رواه الأصفهانی فی قوله: "نظر المهدی" إلى جاریة تغتسل.... فأنشأ یقول: نظرت عینی لحینی، ثم ارتج علیه فقال من بالباب من الشعراء قالوا: بشار، فإذن له فقال أجز: نظرت عینی لحینی، فقال بشار:

نظرت عینی لحینی                نظراً وافق شینی

سترت لما رأتنی                  دونه بالراحتین

فقال له المهدی قبحك الله ویحك أكنت ثالثنا... فضحك وأمر له بجائزة"([10">).

وتأویل موقف المهدی المتباین من غزل بشار أنّه لما شاع وانتشر فی الناس، أضحى ذلك باباً فی إغواء النساء، ومجالاً للفساد والإباحیة، وقد لاحظ أن غزله یختلف عن غزل المتقدمین لكونه مكشوفاً للناس، ولیس ذلك فحسب بل بدا فی غزله خبیراً بأحوال الحسان عارفاً طباعهن، مما جعل بعض العشاق یفتنون النساء بشعره، فروی أنّ رجلاً جاء إلى بشار فقال له: أنت بشار، قال: نعم، فقال: آلیت أن أدفع لك مئتیّ دینار، وذلك أنی عشقت امرأة، فجئت إلهیا فكلمتها فلم تلتفت إلی فهممت أن أتركها فذكرت قولك:

قاس الهموم تنل بها نجحا                   واللیل إن وراءه صبحا

لا یؤیسنك من مخبأة             قول تغلظه وإن جرحا

عسر النساء إلى میاسرة          والصعب یمكن بعدما جمحا

وقیل.. لما سمع المهدی هذه الأبیات قال لبشار: "أتحض الناس على الفجور وتقذف المحصنات المخبآت، والله لئن قلت بعد هذا بیتاً واحداً فی نسیب لآتین على روحك"([11">).

2 ـ دوافع المجون عند بشار:

یَصْدُرُ مجون بشار بن برد عن التعابث بصورة أساسیة، ولیس التعابث فی حال من الأحوال تطاولاً مقصوداً على أعراف المجتمع وقیمه، أو انتفاضاً على واقع، أو موقفاً فكریاً هادفاً، وإنما هو میل فطری، واتجاه ذاتی یخلو فیه الرجل إلى متعته ولذته ویتحلل من قیود كثیرة كانت مفروضة علیه، والمهم أن المجتمع قد قبل عبث بشار وغیره بصورة فن وشعر، ذلك لأن بشاراً فی تعابثه قد لاذ بالفن الذی وفر له هامشاً للحریة الفردیة، وكان فی الوقت ذاته مضماراً لتخطیه القیم والمبادئ، وقد ركب أسلوب التعابث والتظرف، وكان هذا الأسلوب مقبولاً عند أشد الخلفاء غیرة وحیاءً أعنی الخلیفة المهدی الذی قبل تعابث بشار فی كثیر من المواقف من باب التسلی والإضحاك، فقد روی أن یزید بن منصور الحمیری دخل على المهدی وبشار عنده ینشده شعراً فقال لبشار: ما صناعتك؟ فقال: أثقب اللؤلؤ فضحك المهدی ثم قال لبشار: ویلك أتتنادر على خالی، فقال: وما أصنع به یرى شیخاً أعمى ینشد الخلیفة شعراً ویسأله عن صناعته([12">).

كان بشار إذن یمیل إلى الدعابة والهزل والتظرف والعبث، وكان لعاهته أثر بالغ فی ذلك، لأنه كما یقول دائماً، یرید التفوق على المبصرین، ولم یكن لدیه وسیلة لبلوغ ذلك سوى العبث الذی عبر به عن وجوده، كما كان أسلوبه فی الإبداع، من أجل ذلك أشار فی غیر موضع من أشعاره إلى أنه أجاد الوصف مع أنه كفیف، وقد ذكر ذلك على لسان إحدى النساء:

عجبت فطمة من نعتی لها                  هل یجید النعت مكفوف البصر

ومرة أخرى یتكلم فی شعره على عاهته مشیراً إلى أن تلك العاهة لم تلغ تفرده أو تقضِ على ذكائه وعبقریته:

عمیت جنیناً والذكاء من العمى            فجئت عجیب الظن للعلم موئلا

وكان أوجع الهجاء فی نفس بشار ذاك الذی یطول شكله، أو یشیر إلى عاهته، لهذا قیل إنه بكى لما شبهه حماد عجرد بقرد أعمى، فقیل له ما یبكیك من هذا الشعر؟ فقال: إنه یرانی ولا أراه.

إن بشاراً كان یدرك أنه لم یستطع مبارزة المبصرین من الشعراء وغیر الشعراء، لأنه كان یشعر أنه مكشوف لبصرهم، وهم مستورون عنه لا یستطیع أن یجسد معایبهم الخلقیة على نحو ما كان خصومه یجسدون عاهته وشكله، لهذا ما كان یزعجه شیء فی هجاء الشعراء مثلما یزعجه تصویرهم إیاه بالقرد لأن هذا التصویر صادف إحساساً لدیه بقبح المنظر وسوء الطباع. وهنا ترسخ فی نفسه كره للناس وتبرم شدید بهم، ومن ثم تحول ذلك الإحساس إلى تطاول وتمرد وعبث، فبطریق التعابث أراد تجاوز قصوره، وبطریق ازدراء القیم أراد التعبیر عن حریته المطوقة بالمحدود، وبطریق التهتك أراد أن یعوض ما حرمته الطبیعة من نعمة البصر، ولكن مع كل ذلك لم یكن بشار یسعى إلى العبث سعی القاصد الناقم، وإنما كان یبلغ ذلك بلوغ الساذج البسیط الذی لم یجد فی نفسه الشخص القادر على التمام لعیب فی نفسه وشكله، فمن هنا آثر ترك نفسه على سجیتها، فقطع الحیاة عابثاً لا یقیم وزناً للحدود، وكان لأصحابه دور بارز فی كل ذلك، ففی مسألة التعابث كان منقاداً أكثر من كونه قائداً، رُوِیَ أنّ رجلاً یقال له سعد بن القعقاع یشارك بشار فی المجانة "فقال له وهو ینادمه: ویحك یا أبا معاذ قد نسبنا الناس إلى الزندقة فهل لك أن تحج بنا حجة تنفی ذلك عنا، قال: نِعْمَ ما رأیت، فاشتریا بعیراً ومحملاً وركباً فلما مرا بزرارة قال له: ویحك یا أبا معاذ ثلاثمئة فرسخ متى نقطعها مل بنا إلى زرارة نتنعم فیها فإذا أقبل الحاج عارضناهم بالقادسیة وجززنا رؤوسنا فلم یشك الناس أن جئنا من الحج فقال له بشار: نِعمَ ما رأیت وإنی أخاف أن تفضحنا، قال لا تخف فمالا إلى زرارة یشربان الخمر ویفسقان، فلما نزل الحاج بالقاسدیة راجعین أخذا بعیراً ومحملاً وجزا رؤوسهما وأقبلا وتلقاهما الناس فقال سعد بن القعقاع:

ألم ترنی وبشاراً حججنا          وكان الحج من خیر التجاره

خرجنا طالبی سفر بعید          فمال بنا الطریق إلى زراره

فآب الناس قد حجوا وبَرّوا                وأُبنا موقرین من الخساره([13">)

ویكشف لنا هذا الخبر حقیقیة عبث بشار، فهو فی قرارة نفسه یرید أن یزیل عن نفسه صفة الزندقة التی نسبها الناس إلیه، ولما عرض علیه ابن القعقاع الحج وافق وقال: نِعْمَ ما رأیت، ثم غرر به سعد فأقنعه أن الرحلة إلى الحج طویلة ولیس بوسعهما بلوغ الغایة فعرض علیه ثانیة أن یمیلا إلى زرارة إلى أن یعود الحجاج لیعودا معهم وكأنهما قد أدیا الفریضة، غیر أن سعداً فضح الأمر فی الشعر الذی قاله وكان بشار یخاف من ذلك وقد حدث. فبشار فی هذه الحكایة منقاد على اعتباره كفیفاً یحتاج لمن یقوده ویذهب به، وقد برزت نیته الصادقة فی إزالة التهمة عنه غیر أن رفیق السوء هو الذی غرر به فكانت المسألة برمتها لا تخرج عن حدود التعابث والمجون، ولو كان بشار یضمر فی نفسه سوء الاعتقاد لكان رفض فكرة الحج من أساسها.

3. أبعاد المجون وأثره فی تقویم شعر بشار:

إن ما جاء به الباحثون من آراء حول مجون بشار لا یؤخذ بكلیته، كما أنه لا یرد فی جملته، وربما كانت تصوراتهم إزاء موضوع المجون بدوافعه السیاسیة والفكریة أو حتى العرقیة منوطةً بالواقع التاریخی الذی عاش فیه بشار، غیر أن ما یحتمل النظر فی جملة الأسباب التی دعت بشاراً إلى التعابث والتمرد والتطاول على القیم هو أن الخلفاء كانوا یتهاونون فی ردع المتماجنین من الشعراء، فالمهدی مع تشدده لم یزدجر بشاراً على عبثه ومجونه، وإنما أمر بقتله حین هجاه، فكان ظاهر تهمته رمیه بالزندقة والإلحاد، وأما باطنها فهو الهجاء كما تجمع المصادر التی تكلمت على موت بشار، ولیس ذلك فحسب بل إن عدداً من الخلفاء كانوا قد اتخذوا من الشعراء المجان ندماء ومسامرین بغرض التسلی، وكان بشار ینال الأعطیات الجزلة من جراء تماجنه، وبمعنى أن عین الرقیب كانت تغفل عن مجونه طالما أن ذلك المجون لا یشكل خطراً على ذوی السلطان، أو ینال من شخصیاتهم.

ویبدو أن هذه المسألة كانت واضحة فی أذهان نقاد الشعر القدیم وعلى رأسهم الأصمعی والجاحظ، فالأصمعی كان من أوثق الرواة وأصدقهم وأغزرهم علماً، وأوسعهم معرفة بصناعة الشعراء، كما أنّ الجاحظ من أظهر النقاد الذین أمعنوا النظر فی جمالیات العربیة، وقد حمله ذلك على تألیف أهم كتاب یبین مآثر اللغة وبیانها الساحر، وقد تعصب للعرب بفضل لغتهم، وهذان الرجلان كانا من أشد المناصرین لمذهب بشار فی الشعر، ولیس ذلك فحسب بل إن الأصمعی أوشك أن یختم الشعر به، كما أن الجاحظ جعله على رأس طبقة الشعراء المحدثین حین قال: "بشار من أصحاب الإبداع والاختراع"([14">)، ثم رفع ناقد مثل ابن رشیق من قدره فقدمه على سائر الشعراء: "أتى بشار بن برد وأصحابه فزادوا معانی ما مرت بخاطر جاهلی ولا مخضرم ولا إسلامی"([15">) كما أحصى النقاد معانیه المولدة والفریدة حتى فاق الشعراء جمیعاً بما جاء به من خطرات الفؤاد وتجلیات الوجدان وقد تناقلت الكتب من معانیه المولدة قوله:

یا قوم أذنی لبعض الحی عاشقة             والأذن تعشق قبل العین أحیانا

وهذا كله یثبت أن بشاراً قد تسنّم ذروة الشعر العربی زمناً، وقد أقر له الأقدمون بالتفوق والعبقریة، ولم یكن مجونه حائلاً دون الاعتراف بفضله، وقد كان الأصمعی وهو عربی شهد لبشار بالشاعریة، ولم یثنه عن الاعتراف بفضله ما كان یظهره بشار من عداء للعرب، وكذا الجاحظ المعتزلی لم یصده هجوم بشار على المعتزلة وواصل بن عطاء عن الإشادة بشعره.

ومؤدى ذلك أن النقاد القدامى لم ینظروا إلى مجون بشار بعیداً عن ظروفه الخاصة، إذ المجون عند بشار وغیره موضوع فنی، والموضوع فی الواقع یمثل مادة الشعر، والحكم النقدی لا یهتم بالمادة بمقدار اهتمامه بالصیاغة وسبل تجویدها، ومن الطبیعی أن یرتقی بشار المكانة السامقة التی وضعه فیها النقاد، ذلك لأنه امتلك ناصیة البیان وأجاد فی صناعته إجادة لم تتوافر لكثیر غیره من شعراء العربیة.

كما أن شخصیة بشار لم تكن مكروهة لإسهامه فی المجون، لأن المجون كما قلنا موضوع فنی، وكذا تعابثه كان مقبولاً فی مجتمع لأن الفنان بنوازعه الممیزة ومزاجه المتقلب وطباعه الحادة كان یمثل حضوراً دائماً فی المجتمع لأن رصیده فی الإبداع یفوق سلبیاته، ولهذا حفل الدرس الأدبی فی القدیم ببشار وشعره بإبداعاته ومباذله ولم یكن المجون فی حال من الأحوال یحجب النظر عن محاسن أشعاره، والأهم من ذلك أن مجون بشار وزندقته لم یَعْدما إشارات المنصفین إلى أنه متهم، وقد حاولنا فیما تقدم الوقوف عند بعض الشواهد والأخبار التی تلفت النظر إلى هذه الناحیة، ظناً منا أن شاعراً كبیراً كبشار نال شهرة وحظوة فی عصره لم یعدم منافساً أو عدواً یتقول علیه ویدس فی أخبار ما یشوه صورته، والحق أن مجمل الأخبار التی عرضناها فی هذا الباب تحمل على الظن أن بشاراً كان متهماً، وهو بطبیعة الحال لیس بریئاً تماماً من كل ما نسب إلیه، غیر أن صورة المجون التی رسمت له كانت مضخمة أوسع ما یكون التضخیم، ومن عجب أن الباحثین المحدثین قد أسهموا فی تضخیم مجون بشار فإذا به یستحیل إلى تیار قوی تنعكس فیه أسباب وأهداف ونتائج هی فی ظنی أكبر من بشار ومن شعره، وما أعده جنایة بحق بشار بن برد فی الدراسات المحدثة التی تكلمت على مجونه أنها استبعدت تماماً كل إشارة یمكن أن تنصفه أو تبعد عنه صفة المجون والزندقة([16">).

المراجع:

1 ـ اتجاهات الشعر فی القرن الثانی الهجری، محمد مصطفى هدارة، مصر، دار المعارف، 1963.

2 ـ الأغانی لأبی الفرج الأصفهانی، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصریة.

3 ـ حدیث الأربعاء، طه حسین، مصر، دار المعارف.

4 ـ دراستان: من قتل بشار، والخیر والشر فی لزومیات المعری، محیی الدین صبحی، دمشق، وزارة الثقافة، 1981.

5 ـ العمدة فی محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشیق القیروانی، تحقیق محمد قرقزان، بیروت، دار المعرفة، 1981.

________________________________________

([1">)  نفسه: 3/167.

([2">)  البیان والتبیین للجاحظ: 1/64.

([3">)  الأغانی: 3/169.

([4">)  نفسه: 3/187.

([5">)  نفسه.

([6">)  نفسه: 3/184.

([7">)  نفسه.

([8">)  نفسه.

([9">)  نفسه.

([10">)  نفسه.

([11">)  نفسه 30/192.

([12">)  نفسه.

([13">)  نفسه: 3/179.

([14">)  البیان والتبیین للجاحظ: 1/59.

([15">)  العمدة لابن رشیق: 2/970.

([16">)  هنالك دراسات قلیلة أشارت إلى الظلم الذی لحق بشار بن برد منها دراسة لمحیی الدین صبحی (من قتل بشاراً). 





نظرات:



متن امنیتی

گزارش تخلف
بعدی